هذا المقال نشر في عام 2005 في مجلة اراء الخليح ( أصلحوا أو تصلحوا )!

دعوات لإصلاح العرب من الداخل أو الخارج

أصلحوا أو تصلحوا

رجل حصيف مثل الأمير خالد الفيصل أمير منطقة عسير في المملكة العربية السعودية ينشر مقالاً مؤثراً في جريدة الوطن السعودية بتاريخ 13/يونيو/2004م بعنوان، من غيب البسمة؟ يتساءل فيه الشاعر والسياسي والمسؤول الكبير عن ما وصلنا إليه من انحراف قاد إلى إرهاب أسود يحصد الأخضر واليابس، يقول الأمير :

(أعتقد أن كل من في هذه البلاد يعرف الفاعل المسؤول عن كل هذا، وما هي إلا عودة للكتب والمطويات والأشرطة، التي وزعت بمئات الآلاف، في المدارس والجامعات، والمساجد والجمعيات الخيرية، في السنوات العشرين الماضية، لنجد الأسماء مطبوعة عليها بكل وضوح !!! ومواقع الإنترنت تكشف عن البقية. ولكن السؤال المهم الآن هو : من يستطيع أن يُغير هذا الواقع الجديد المؤلم؟ ومن يُعيد إلينا عقول أبنائنا التي اختطفها الضالون المضللون؟).

تلك صيحة غاضبة أصيلة من رجل عرك الدنيا وعركته، وعرف الحق من الباطل، وهي دعوة في صلبها مناداة لمن يريد أن يسمع بالإصلاح العاجل الذي يتطلب قرارات صعبة ولكنها أهون بكثير من نتائج التقاعس.

الإصلاح اختلف فيه الكثيرون، هل هو مطلوب من الخارج أو يجب أن ينبع من الداخل، وكلا الفريقين يعترفان أنه لا بد من الإصلاح، حيث وصل الأمر إلى ما لا يطاق من خلل بيّن. متى نودي بالإصلاح العربي ومن نادى به؟

ينسب البعض سبب إطلاق أفكار الإصلاح في الوطن العربي في الفترة الأخيرة بهذه الكثرة والكثافة إلى صدور تقريري التنمية الإنسانية الصادران من الأمم المتحدة لعام 2003،2002م واللذان أكدا أن (العالم العربي) تنقصه ثلاث أعمدة وهياكل أساسية من أجل التقدم ومسايرة العالم، وهي الحرية، المعرفة، تمكين المرأة، وهي قضايا ليست هينة أو بسيطة!

يرى البعض الآخر أن فكر الإصلاح وإن كانت قديمة، فقد أصبحت ككرة الثلج، حيث ازدادت تدحرجاً وسرعة، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، كل ذلك صحيح نسبياً، ألا أن المطالبة بالإصلاح من النخب العربية قديم، وقديم جداً لقد قامت كانت قبل هذا الزمن بوقت طويل، فقد كتب الكثير من العرب منذ ما قبل السبعينيات من القرن الماضي على الأقل، بل وربما منذ أبعد من ذلك الوقت عن أهمية الإصلاح وضرورته القصوى، فقط المفردات اختلفت من وقت إلى آخر. فالكتابة عن الديمقراطية ومقالات الإصلاح، والمناشدة بأهمية اللحاق بمسيرة التطور الإنساني ضاربة في تاريخ الكتابات العربية الحديثة وفي برامج رجال وتجمعات الإصلاح.

لذا فإن الحديث عن الإصلاح والديمقراطية في (الوطن) العربي ليس جديداً، ربما سرعة الأحداث، خاصة الدولية التي اجتاحت العالم في العشرية الأخيرة من القرن العشرين وما بعدها، ومنها سقوط الاتحاد السوفيتي، وانهيار أوروبا الاشتراكية، وشروط العولمة المفروضة على التجارة بأشكالها والمعاملات الدولية القانونية والسياسية، ثمّ أخيراً الإرهاب الدولي، هي التي سرّعت من الحديث المتصاعد عن الإصلاح.

  • مفهوم الإصلاح ليس بجديد في الثقافة العربية الإسلامية، فقد استخدم منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فمرحلة الإصلاح (العثماني) في الدولة السلطانية، في أواخر الحكم العثماني معروفة ومدروسة (انظر من بين مراجع عديدة، كمال عبداللطيف : تشريح الاستبداد، دار الطليعة 1999م، أو كتاب الاستبداد، للكواكبي)، كانت دوافع المطالبة وتنفيذ الإصلاح مثلها اليوم، متأثرة بالضغوط الأوروبية، وتقارير ونصائح القناصل الأوروبيين، وكتابات كتاب الغرب، كان (التحدي) الخارجي الذي طالبت النخبة العثمانية وقتها بمواجهته، والرغبة في (التماثل) مع الغرب هي دوافع الإصلاح.
  • لم ينجح الإصلاح (العثماني) في تحقيق أهدافه بالحفاظ على الدولة (الإمبراطورية) لعدد من الأسباب، فلم يكن الوعي بماهيته واحداً بين الأطراف المختلفة في النخبة العثمانية، السلطة كانت تريد الإصلاح لتدعيم سلطتها وتأكيد مصالحها، والنخبة المتطلعة إلى التقدم، كانت تريد الإصلاح للتغلب على مظاهر التأخر (بالنسبة لأوروبا) وإقامة العدل، حيث كان الجور الذي يؤدي إلى التسلط هو عقبة الإصلاح، ولكن رأت هذه النخبة أن الإصلاح يتحقق بالرجوع إلى أصول نمطية للتاريخ الإسلامي، إلى (زمن ذهبي في الماضي) في الغالب متخيل، ولم تأخذ بآليات وروح المؤسسات الحديثة، وهو الطريق الذي اتخذته الرؤى العديدة في طلب الإصلاح في أماكن عديدة من الإمبراطورية (خير الدين التونسي) في تونس، و (محمد عبده) وتلاميذه في مصر، كانت الرغبة في الغالب هي تبديل التسلط السلطاني، بحسن الإمارة! وليس بإتباع ترسيخ المؤسسات القادرة على الرقابة والمحاسبة.

نتيجة ذلك الفشل في الإصلاح الحقيقي والعميق في ذلك الوقت المتقدم نسبياً من التاريخ، قُسمت الدولة العثمانية، وفرضت عليها المواثيق، وظهرت الدولة العربية المعاصرة، نتيجة التدخل (الاستعماري الغربي) الذي فرض أشكال من تنظيمات الدول العربية المعروفة اليوم، كل على شاكلة الدولة المستعمرة، أو قريباً من تجربتها (فرنسا في الشمال العربي الإفريقي) شكلت دول عربية لها قاعدة إدارية على النمط الفرنسي وأعطتها لغتها، وبريطانيا (في مصر والخليج والعراق) على شاكلة النمط البريطاني، وغرست ثقافتها، ثمّ أخيراً التدخل الأمريكي (في الخمسينيات وما بعدها) الذي فرض أنظمة على ما عرفه في أمريكا اللاتينية، وهي (الأنظمة العسكرية).

الدولة العربية الحديثة:

إلا أن الأشكال المختلفة للدولة العربية التي ظهرت بدا من نهاية الحرب العالمية الثانية، انتهجت شكلاً من أشكال الحكم، طورت فيه فقط آليات (التسلط السلطاني) القديمة، ولم تأخذ بأساليب ونظم وروح الدولة الحديثة في المجتمعات الغربية.

كان ذلك طبيعياً حيث أن الدولة في الغرب صيرورة تاريخية وثمرة تاريخ من الصراع الطويل والحروب البينية، وانتقال من الإمبراطورية ذات المظلة الدينية، إلى الدولة ذات المظلة القومية، في الوقت الذي تشكلت فيه الدولة العربية الحديثة بنقلة (فوقية)، وعاشت ولا تزال تراوح بين (تحديثي) سلفي وتحديث (تغريبي)، فاستعارت الشكل وأخفقت في المضمون.

من هنا جاء الفشل الذريع للدولة الوطنية (القومية) العربية في أن تقدم حكماً حديثاً له صلة بعدد من المبادئ منها تداول السلطة سلمياً، ومنها رفعة القانون وتطبيقه بعدالة، وحقوق الإنسان، وغيرها من الحقوق والواجبات التي أصبحت معطاً يومياً لا يقبل المناقشة في الدول الحديثة.

حقيقة الأمر أن بعض هذه الدول تخلصت من (الاستعمار) القديم إلى ما سمته في مقالة لمجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية في وسط السبعينيات (الاستعمار الوطني) الذي أنتج ضمن ما أنتج عبادة الأصنام في دولة الإكراه الحديثة.

لماذا الإصلاحات عربياً؟

يقول يوسف إدريس (أن الحريات التي تمنح للكُتاب العرب، لا تكفي مُبدعاً واحداً) وحيث أن دولة الإكراه العربية قد ضربت جذورها، وأصبح الإصلاح متعذراً، في الوقت الذي اتخذت معظم دول العالم أهبتها في نشر أشرعة الإصلاح، إلا أن الوضع يتغير بسرعة، فالحركة العربية شديدة البطء في التحول إلى الإصلاح يضغط عليها اليوم تياران يدفعان للإصلاح كضرورة حياتية للعرب، أحدهم سُكاني, والآخر اقتصادي، ويجعلان من الإصلاح فرض عين لا فرض كفاية.

  • الضغوط السكانية : في وسط الستينيات من القرن الماضي كان مجمل السكان بين 80-90 مليون نسمة، في السبعينيات وصل إلى 120 مليون نسمة، عام 1980م وصل عدد السكان العرب إلى 174 مليون، وعام 1997م كان هُناك 279 مليون نسمة، وفي عام 2015م (أي بعد حوالي عشر سنوات سيصبح المواطنون العرب حوالي 400 مليون نسمة (المتوقع المنخفض) ويتضاعف اليوم سكان دول الخليج كل عشرين عاماً.
  • الضغوط الاقتصادية : معدل زيادة الاستهلاك للفرد سنوياً لدى العرب لا يتجاوز 7,0% بين عام 1980 – 1997م، بينما الرقم في شرق آسيا 8,6%، ومتوسط الدخل القومي العام لدى العرب بين عام 1980 – 1990م هو 2,1% بينما كان 7,5% في شرق آسيا، و 5,6% في جنوب آسيا.

اجتماع الضغوط السكانية والضغوط الاقتصادية يؤكد فشل التنمية، وأن الصيغة (الأبوية) لتسيير المجتمعات أصبحت غير محتملة وغير قابلة للبقاء، من هنا فإن قضية الإصلاح أصبحت الصيحة التي يتنادى الجميع بعدها.

إلا أن (الإصلاح) كمفهوم غامض وضبابي، إن لم يكن مقروناً بأولويات ومؤسسات وبرامج ومرتبط في كل دولة على حدة، وواضح المعالم فيما يبتغي وما يهدف إليهقد يؤدي إلى (فوضى) أو (تراجع)!

فإصلاح (العرب) أو المؤسسات العربية، الذي يتبناه البعض، هو هروب للأمام بدون الإشارة إلى كل بلد من أهله إلى طرق ووسائل الإصلاح وإلى أهدافه، لذلك يُعلق الكاتب الأمريكي فريد زكريا، رئيس تحرير النيوزويك الأسبوعية، بقوله أن (الإصلاح العربي مُعلق في الهواء) ولم ينزل على الأرض بعد .! والثقافة العربية تساعد على تمييع مصطلح الإصلاح، فهي تستبدل العمل بالكلام أو ما يُسمى (الاستبداد البياني) فالحديث عن الإصلاح لدى كثيرين، يغني عن فعل الإصلاح ذاته.

تشخيص الوضع العربي القائم يأتي من جملة شهادات عربية وأجنبية، وأُريد هنا أن أستشهد بشهادة الكاتب الياباني نوبوأكي نوتاهارا الذي قضى قرابة أربعون عاماً وهو يعيش مع الثقافة العربية، ويلاحظ السلوكيات العربية في البوادي والمدن، وقد أجاد العربية كأحد أبنائها، يلاحظ الكاتب هذا التوتر غير الخفي في المدن العربية المكتظة بالسكان، وهو توتر في الشارع العربي . يعتقد الكاتب أنه ناتج من اضطهاد، فالناس تمشي في الشوارع وكأن عيناً تطاردهم، ووجوه جامدة وصامتة وطوابير طويلة، أن (الناس في المدن العربية ليسوا سعداء وليسوا مرتاحين، الناس صامتون لا يتحدثون، ولكننا نسمع صرخة من خلال ذلك الصمت الخانق) !

يكتشف الناقد الياباني أن هذا الجو من التوتر هو بسبب غياب العدالة الاجتماعية، ويضيف أن غياب العدالة يعني غياب المبدأ الأساسي الذي يعتمد عليه الناس في علاقتهم ببعضهم، لذلك (يُكرر الناس في البلاد العربية أن كُل شيء ممكن، لأن القوانين السائدة غير مُطبقة وغير محترمة).

ومن مظاهر القمع الذي يستغرب لها الياباني المُعاصر أن (الحاكم) في البلاد العربية، يحكم مدى الحياة في الوقت الذي لا يتجاوز عمر رئيس الوزراء الياباني في الوظيفة بضع سنين، وأن الصحف تمنع من بلد إلى بلد، وأن الكتب والمجلات تُعرض على الرقابة، (السلطة والشخص في البلاد العربية شيء واحد) وفي معظم البلاد العربية يقول الكاتب أن (المعيار الوحيد لكرامة المواطن ووطنيته هو بقدر ولائه للحاكم) (أعتقد أن القمع هو داء عضال في المجتمع العربي . لذا فإن أي كاتب أو باحث يتحدث عن المجتمع العربي دون وعي هذه الحقيقة البسيطة الواضحة، فإني لا أعتبر حديثه مفيداً وجدياً).

نتيجة القمع يحاول الناس أن يوحدوا آرائهم وملابسهم وبيوتهم، وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد، ويغيب أيضاً الوعي بالمسؤولية العامة . فالقمع يولد الخوف وينتج الاحترام الكاذب.

بسبب غياب العدالة، تغيب المسؤولية العامة، فالحدائق والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل العامة يدمرها الناس اعتقاداً منهم أنهم يدمروا ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم، وكذلك تغيب المسؤولية تجاه أفراد المجتمع (فالسجناء السياسيين ضحوا من أجل المجتمع ولكن المجتمع نفسه يضحي بأولئك الرجال الشجعان) الناس في البلاد العربية تتعامل مع قضية السجين السياسي على أنها قضية فردية على أُسرة السجين أن تواجه أعبائها!

العربي يقول الكاتب يتناول أفكاره من (خارجه) في الوقت أن الياباني يستنتج أفكاره من الوقائع الملموسة التي يحياها كل يوم (في اليابان تضاف حقائق جديدة كل يوم بينما العربي يكتفي باستعادة الحقائق التي اكتشفها في الماضي البعيد) الأفكار الجاهزة تخرب فهمنا للواقع.

لقد تعلمنا أن (القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية، وقتل الأبرياء، ويؤدي إلى انحراف السلطة والدخول في ممارسات خاطئة) ثمّ يُضيف أن (النقد الذاتي له قيمة كبرى في حياة الشعوب، والشعوب بحاجة إلى نقد من الداخل ومن الخارج).

يقول الكاتب كثيراً ما يواجه بسؤال من أصدقائه العرب، لقد دمرتكم الولايات المتحدة الأمريكية بإلقاء قنبلتين نوويتين على مُدنكم، فلماذا لا تكرهون أمريكا؟ يجيب علينا أن نعترف بأخطائنا لقد استعمرنا شعوب ودمرنا بلاد كبيرة في الصين وكوريا وأوكيناوا، علينا أن ننتقد أنفسنا ثمّ نُصحح أخطاءنا ونُزيل الانحراف (أما المشاعر فإنها مُساءلة شخصية محدودة لا تصنع مستقبلاً).

الكلمة المشتركة في الكتابات العربية والغربية حول المجتمعات العربية المعاصرة هي (القمع) فأنت تستطيع أن تحصل على آلاف المقالات من الإنترنت عن هذه المجتمعات فقط إذا أدخلت تلك الكلمة السحرية.

الكاتب ليس عربياً (مُعادياً) ولكنه مُراقب حصيف يرى ما لايراه كثيرون منا.

لماذا الإصلاحات غربياً :

يجمع الكثيرون في الغرب نتيجة الكثير من التحليلات أنهم بحاجة إلى حل قضيتين مع العرب :

  • الأولي : أن يتدفق النفط بالأسعار الدولية للمستهلك الغربي (الدول الصناعية).
  • والثانية : أن يُحافظ على أمن الدول الصناعية(المُهدد بالخلل).

والغرب الصناعي يرى أن تحقيق الشرط الثاني (الأمن) لا يتم، خاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م بسبب (الإرهاب)، الذي هو نابع من فشل التنمية العربية الشامل، وخاصة الاقتصادية والسياسية، وتُضيف هذه المدرسة أن الأمن الغربي مُهدد بسبب التدفق الضخم من المهاجرين العرب إلى درجة أن عدد (المسلمين) في أوروبا خلال العشرين عاماً القادمة سيصل في بعض التقديرات إلى ستين مليون نسمة، وهو دليل آخر يضيفه الغرب على فشل التنمية العربية.

من هُنا انطلقت سيل المُبادرات الإصلاحية الأمريكية والغربية بشعار (أصلحوا أنفسكم أو تصلحوا من الخارج).

حروب الأفكار بعد حروب السلاح :

لقد تحول الشرق الأوسط بسبب المعضلات السياسية التي يواجهها من حالة المتابعة الحثيثة من الغرب، إلى حالة المتهم بالتقاعس عن الإصلاح المطلوب، وإنقاذ نفسه وشعوبه والعالم من كارثة أصبحت تُسمى (الإرهاب) وأصبحت عيون الدول الكبرى مُفتحة على مسيرة تطوره، إلى درجة تقرب من (الوصاية) فإن سارت شؤونه العامة إلى انفراج تنفس العالم، وإن سارت إلى تعكير حبس العالم أنفاسه .بقراءة في وثائق مؤتمر الدول الثمان الكبرى التي أنهت مؤتمرها الذي عُقد أخيراً في سي آيلاند جورجيا (يونيو 2004م)، وشاركت فيه عدد من الدول العربية،خُص الشرق الأوسط بوثيقتين هامتين :

الأولـــى : هي (شراكة من أجل التقدم).

والثانية : (خطة مجموعة الثمان لدعم الإصلاح)، وخاطبت الوثيقتان الشرق الأوسط وفي صلبه البلدان العربية.

أسقطت الوثيقتان التي نُشرتا قضيتين :

الأولى : الخلاف اللفظي بين الداخل والخارج،فقد أشارت الوثيقة الأولى إلى عدد من الوثائق العربية من بينها وثيقة الإسكندرية للإصلاح، وهي نابعة من المجتمع المدني العربي، وكما أشارت إلى وثيقة مؤتمر القمة الأخير في تونس، وهي من جملة عدد من الوثائق الأخرى (الداخلية) المطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي، وهي في ظني إشارات فقط لإنقاذ ماء الوجه، أكثر منها إيماناً مُطلقاً بفصل الداخل عن الخارج.

  • الثانية : هي الفصل الواضح بين الإصلاح المطلوب وبين الموضوع الفلسطيني، على الرغم من الإشارة إلى أنه موضوع هام، إلا أن ربطه تلقائياً بالإصلاح المطلوب لم يعُد بضاعة مقبولة لدى الدول الثمان، أو حتى مقبولاً من بعض الوثائق العربية الصادرة بهذا الخصوص، وإن كانت الإشارة في (الشراكة) إلى ما لم تسبق الإشارة له، وهو التعهد بــــ (تسوية عادلة وشاملة ودائمة يتمخض عنها دولتان تعيشان جنب إلى جنب)، مع التأكيد على (إصلاح) البيت الفلسطيني كمتطلب سابق لذلك.

النظام العالمي يتغير والدول العربية تراوح في مكانها، والوثائق المُعلنة من قبل الدول الثمان الكُبرى تدل على تصميم للتغيير في المنطقة بوضوح لا بأس فيه . فقد خرج النظام العالمي من التوازن إلى التوافق، حيث انتهت مرحلة التوازن الدولي التي سُميت بتوازن الرعب، بسقوط الاتحاد السوفيتي، واستمرت ذيولها المتأخرة شكلاً كما ظهر في الخلاف الأوروبي والروسي مع أمريكا حول الحرب في العراق، وها هي سلسلة التوافق تعود بسرعة إلى الالتئام، حيث يُقر الجميع أن ما يجمعهم أكبر وأهم بكثير مما يفرقهم اليوم، وأن الاضطراب السياسي في الشرق الأوسط ولدى العرب بالذات يؤرقهم ويُعرض (أمنهم للخطر).

دول مثل فرنسا وألمانيا وروسيا لم تعد بعيدة عن توافق إرادة الإصلاح في الشرق الأوسط، أما إيطاليا وكندا واليابان فلم تكن بعيدة في أي وقت عن أجندة الولايات المتحدة الأمريكية المُتبناة مُنذ ثلاث سنوات، والمُصممة على الإصلاح، كما أن التوافق الدولي قد بدأ جلياً بقرار مجلس الأمن الأخير حول العراق الذي لم يستثنى منه أحد حتى تحفظاً.

التوافق النسبي نجده أيضاً بين الدول العربية الخمس التي حضرت القمة في سي آيلاند في يونيو 2004م، وهي البحرين والجزائر والأردن واليمن والعراق، ويجمع هذه الدول العربية خيط واحد، أنها جميعاً قد شرعت في برنامج للإصلاح الداخلي السياسي والاقتصادي، كل بطريقته الخاصة ونتيجة لظروفه الموضوعية، ولكن الخيط رفيع حتى الآن.

إلا أنها ليست كل الدول العربية المتعاطفة مع خطط الإصلاح، فهناك دول شرعت أيضاً بتنفيذ برامج إصلاحية متواضعة، وهي متعاطفة مع مجرى التيار العالمي ربما بحياء، ولكن بسبب ظروفها السياسية لم تأخذ مكانها في اجتماع سي آيلاند الأخير.

الدول العربية الخمس الحاضرة في سي آيلاند، ليست من وسط القوة المُحركة للشأن العربي تقليدياً، هي من المحيط وشبه المحيط العربي، وليست من القلب، كما أنها ليست الأكبر اقتصاداً وسُكاناً (عدى الجزائر)، وذلك يعني أن (المحيط) العربي قد وعي الشروع في بدء التغيرات المطلوبة قبل (القلب)، أو حاول على الأقل للظهور بمظهر المستجيب الموافق، وربما أرادت الدول الخمس أن تُخفف من الضغط الإعلامي والسياسي في داخلها، أو هي تطمح بأن يُحقق التوافق مع الدول الثمان الأكبر استقطاب لرؤوس الأموال، وتحريك الاقتصاد الداخلي، ألا أن وجودها هناك يُحتم عليها سياسياً أن تُسرع أكثر من غيرها في ضرب المثل وأخذ المبادرة، فالدول العربية الخمس بحضورها القمة يعني أنها التزمت أمام الجميع باتخاذ خطوات متسارعة نحو الإصلاح، وأي تراخي أو صرف نظر مؤقت بإبدال الكلام عن الفعل، ربما يؤدي إلى فقد الصدقية لهذه الدول، واستجلاب ضرر أكبر من الضرر الذي قد يُصيب الدول الممتنعة.

فالسقف الذي وضعته الوثيقتان الصادرتان من قمة الدول الثمان (الشراكة والتقدم) و (الخطة لدعم الإصلاح) يضع ضغوط، ويتطلب بذل الكثير من العمل، من الخمس الحاضرة أو الأُخرى الموافقة وغير الحاضرة، فما بالك بالضغوط التي يمكن أن تظهر حول الدول الممتنعة والمتشككة، فطريقها أطول وأصعب، لأنها مهددة بمقاطعة اقتصادية وضغوط سياسية، بل ربما يعبث في أمنها الداخلي.

الظاهرة الأخرى الواجب ملاحظتها من قراءة الوثيقتان، أن الدولة الأكبر في عالمنا اليوم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، قد غيرت سياساتها التقليدية في المنطقة، من تأكيد الوضع القائم والحفاظ عليه وعدم الإخلال به، إلى النقيض من ذلك، وهو السعي لتغير الوضع القائم وإبداله جذرياً أو جُزئياً، بالإقناع أو القوة، بالطريقة اللينة أو الخشنة.

وعلى الرغم من المخاطر التي تُحذر منها بعض مراكز الدراسات الأمريكية، كما هو تقرير مركز دراسات (راند) الذي نشر أخيراً، والذي ينصح الإدارة الأمريكية بالموازنة بين ثلاث متغيرات، الإحباط الداخلي في الشرق الأوسط، العلاقة بإسرائيل والمطالبة بالإصلاح السياسي الفوري. فإن اختلت الموازنة، كما يرى التقرير، قد يجلب الضغط من أجل إصلاح سلبيات أكثر من أية إيجابيات مبتغاة، إلا أن مثل تلك التقارير نظرية، والمحك هو ما مُهر بتوقيع الكبار من الوثائق، والوثيقتان المُشار إليهما تكفيان للقول أن (أصلح أو تصلح).

الفهم الخاطئ لمطالب الإصلاح :

قد يفهم البعض مطالب وإلحاح الغرب على الإصلاح فهماً خاطئاً، بأن يقدم بعض التنازلات ويبخل عن أُخرى خاصة الداخلية، أو يستفيد من (تحالف) جديد على أنه يصرف النظر عن الإصلاح المرجو.

لعل أهم أشكال الفهم الخاطئ للتحالفات الدولية الجديدة، ما فهمه الرئيس الليبي من أن التسليم بما تريده الولايات المتحدة والغرب يُعطيه حق التصرف كما يُريد، فيُقرر أن يدفع بفريق اغتيال ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، تلك أحد الأخطاء القاتلة لمفهوم تخفيف الضغط أو الشراكة مع الشريك الخطأ في منطقة فشلت في حل النزاعات البينية بينها.

ولعل ملاحظة هامة في بيان الثمان حول العراق، حيث كانت المسيرة التاريخية، عدى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وإلى حد أقل من اليابان، أن تقوم البلاد المنهزمة بدفع ما يستحق عليها كتعويضات للحرب، العراق أول دولة عربية في تاريخ الصراع التي يدفع فيها المنتصر أموالاً ضخمة للخاسر، وطلب الولايات المتحدة من الدول الدائنة للعراق بأن تسقط حوالي ثمانون بالمائة من ديونها، يعني أن هناك تفكير مختلف تماماً عما كان في السابق، أنه يعني اجتثاث جذري لعوامل الإحباط القادمة، وخنق لأية محاولة للتفسير السلبي لما تم حتى الآن في العراق، ربما بطرف خفي إشارة هامة لدول مثقلة بديون خارجية، وتشجيعها على السير في طريق آخر غير الذي عرفته حتى الآن للتخفيف من دونها.

أمام الوثيقتين الدوليتين المعلنتين لم تعد الدعوة للإصلاح في الفضاء العربي تُسبب إحراجاً لأحد لأنهما أشارتا إلى تجاوز عقبتين، الأولى ربط واضح وجلي بالقضية الفلسطينية على مراحل، وبشروط إصلاحية في الموضوع الفلسطيني الداخلي، والثانية التشديد على أن مطلب الإصلاح هو مطلب داخلي، بدليل بيان القمة العربية الأخيرة، ومجموعة من البيانات الأخرى المنبثقة من تجمعات عربية مختلفة التي استشهدت بها الوثيقتين والوثائق العربية.

ليس هُناك نقص في الأدبيات العربية من حيث (نقد المبادرات للإصلاح وخاصة المبادرات الأمريكية)، إلا أن المُلاحظ هُناك من جانب آخر فيض من مُبادرات الإصلاح العربية الحكومية وشبه الحكومية والأهلية أو الصادرة من أحزاب عربية، ولدينا اليوم سبع مبادرات أساسية منها :

  • وثيقة صنعاء 10 يناير 2004م.
  • وثيقة الإسكندرية 13 مارس 2004م.
  • وثيقة جماعة الإخوان المسلمين، مصر 3 مارس 2004م.
  • وثيقة حزب التجمع المصري 7 إبريل 2004م.
  • وثيقة المؤتمر القومي العربي، أبريل 2004م.
  • وثيقة قمة تونس، مايو 2004م.
  • وثيقة الإصلاح من الدوحة (العاصمة القطرية) 2-3 يونيو 2004م.

هذه المبادرات التي تذكر بسوق عكاظ، تتراوح بين محلية (وطنية) وإقليمية، ويجمعها رابط واحد وهو إدعاؤها أنها تريد أن تُقدم بديلاً داخلياً (وطنياً) عن المبادرات الخارجية، حقيقة الأمر أن (المبادرات الخارجية هي التي أطلقت كل هذه الحركة المتسارعة، ووضعت قضية الإصلاح في صلب أجندة العمل السياسي العربي، على الصعيدين الأهلي والرسمي، وهنا تبرز الازدواجية على صعيد الخطاب السياسي العربي، إلا أن الحقيقة المكملة أن المبادرات الغربية مست مطالب قديمة ودفينة لدى العرب.

سوف نقصر التحليل هنا على وثيقتين الأولى : وثيقة الإسكندرية، والثانية: وثيقة الإخوان المسلمين.

  • وثيقة الإسكندرية غير وثيقة صنعاء التي ربطت بين (العدل في فلسطين) وبين الإصلاح، وهو أمر اتخذته الكثير من الوثائق العربية، مثل وثيقة المؤتمر القومي أيضاً.
  • إعلان الإسكندرية جاء في الغالب على يد (المنظمات الأهلية العربية).
  • اعتبرت أن الإصلاح السياسي هو حجز الزاوية للإصلاح، على تقرير التنمية الإنسانية العربية، وأيضاً وثيقة الإخوان المسلمين.
  • تتصف الوثيقة بالشمولية من خلال المحاور التي تبنتها، السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي .
  • تبنت الوثيقة الإصلاح الدستوري بوضع سقف أعلى لفترة حكم رئيس الجمهورية، وأن تسود (العائلات الحاكمة) ولا تحكم، بمعنى حكم دستوري كامل، وإلقاء القوانين الاستثنائية، وإطلاق الحريات، وتحرير الصحافة.
  • يرى نُقاد الوثيقة أنها عمومية في طرحها، كما أن الوثيقة لم تُحدد قوى التغيير أو آلياته، وقد انتقدها بعض موقعيها، طالبوا بإضافة بعض البنود عليها.

أما وثيقة الإخوان المسلمين :

فهي تعبير عن رؤية أقدم القوى السياسية الإسلامية في المنطقة، وربما أكثرها تأثيراً تاريخياً فقد جاءت :

  • أنها خلت من ربط الإصلاح (بالموضوع الفلسطيني) وإن شددت على أن الإصلاح هو من الداخل لا من الخارج (ربما لإبعادها عن النقد، ومن قبله الخوف من أن تربطها بالمبادرة الأمريكية).
  • عالجت أهمية وأولوية الإصلاح من القمة (الإصلاح السياسي)، وطالبت بالمصالحة الوطنية كمقدمة للإصلاح السياسي والشامل، أقرت بأن الشعب مصدر السلطات، وبتداول السلطة، وإبعاد الجيش عن السياسة (لم تتطرق الإسكندرية إلى ذلك) وإلقاء قوانين الطوارئ.
  • منع التعذيب وتأكيد استقلال القضاء، وحرية النشاط الاقتصادي، وتحديد مدى زمني لرئيس الجمهورية، من أجل ما سمته المبادرة القضاء على الثالوث المدمر، الجمود السياسي، والفساد والظلم الاجتماعي.
  • ترى المبادرة أن العلم والتقنية وحيازة المعرفة ( ما جاء في تقرير التنمية) هي وسيطاً لأي تقدم مأمول.
  • لقد تقاطعت المبادرة بالعديد من النقاط، بالمبادرات العامة الأُخرى، مع الاعتراف بأن (من الحق أن تعترف أننا بعدنا إلى حد كبير عن مقتضيات الإسلام الذي يحض على اقتباس النافع، وأن نأخذ الحكمة أينما وجدت.
  • خصصت المبادرة للأزهر والأقباط والمرأة (التي من حقها المشاركة (عدى الإمامة الكبرى)، وقد أثار هذا النص جدلاً بسبب غموضه، كما أثار مشاركة المرأة موقفاً مُعارضاً من التيار السلفي (في الكويت).
  • من بين ما يؤخذ على المبادرة أنها لا زالت تحتمي تحت سقف (التراث) واستنطاق النص، كما أنها لم توضح الآلية التي تريد تنفيذ المبادرة بواسطتها، إلا أنها من جانب آخر اعترفت أن هناك (معرفة) خارج النص !
  • تقول التجارب المعاصرة أن الدين (حاجة بشرية) ما دامت تُلبي حاجات البشر الروحية، ولكن في المعاش والسياسة، يجب أن ننشغل بلغة المصالح، لا بلغة النصوص المطلقة، ولأن الحياة متغيرة . فالمواثيق تتغير لتُلبي حاجات الحياة.

يتطلع العرب في بلدانهم اليوم في بداية العشرية الأولى من هذا القرن سريع التغير، إلى عقد اجتماعي جديد في عالم يستبدل حروب السلاح بحروب الأفكار، وها هي الأفكار تتدفق مُعلنة حرباً جديدة عنوانها الإصلاح ووسيلتها استخدام التقنية الحديثة للترويج إلى تلك الأفكار بجانب الإشارة إلى العصى والجزرة !!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.