من البادية إلى عالم النفط! قصة رجل ومجتمع!!

ملخص كتاب

من البادية إلى عالم النفط

للدكتور علي بن إبراهيم النعيمي

تلخيص  : حسين آل منصور

قراءة ماتعة لسيرة رجل و مجتمع من الفقر الى النفط

 

إهداء

 

وأخيراً أخرج معالي الوزير علي النعيمي صندوقه الأسود من خلال كتابه الرائع من البادية إلى عالم النفط الذي دوّن فيه تجربته العظيمة التي تمنيت لو أنني قرأتها قبل أكثر من عشرين سنة ….

علي النعيمي أحد النماذج المشرِّفة للمملكة العربية السعودية وهو يعتبر شخصية عالمية نفخر ونعتز بها كثيراً في وطننا الغالي .. وكلي أمل من خلال تلخيصي لهذا الكتاب المساهمة ولو بنذر يسير في بناء هذا الوطن المعطاء .. وذلك لتحفيز شبابنا وشحذ هممهم للاقتداء بهذه الشخصية العظيمة التي كانت تعمل لبناء وطننا وليست لمجرد إنتاج المزيد من النفط والغاز.

ولقد كان والدي رحمة الله عليه علي بن راشد الذي عمل مع النعيمي في أبقيق، يروي لنا الكثير عن عصامية وذكاء هذا الرجل.

من يصبو أن يحقق أهدافه وطموحاته ويريد عمل تغيير في حياته إلى الأفضل فقد تكون قراءتك لهذا الكتاب أحد أسرار نجاحك وصناعة الفارق الحقيقي.

من أسرار السعادة في هذه الحياة هو تقديرك لذاتك فكلما حققت وأنجزت كلما ارتفع تقديرك لذاتك وارتفع معدل السعادة لديك.

جميع ما قرأت من كتب تطوير الذات وجدت أن النعيمي قام بتطبيقها على أرض الواقع وستلمس بنفسك عندما تبدأ في قراءة هذا الكتاب الأكثر من رائع.

 

 

حسين آل منصور

 

 

مقدمة:

 

ولدت لأُم بدوية عام  1935، وظللت أرتحل معها وعشيرة كبيرة ثماني سنوات نطلب الماء والكلأ لم أعرف النعل حتى بلغت التاسعة – إذ لا يحتاجها ابن بادية – كان أول عمل يزاوله رعي الغنم في الرابعة من عمره.

أُكتشف النفط في المملكة عام 1938 ، فتبدل حال البلاد وأهلها.  ما زلت أذكر كيف قادتني الصدفة، وأنا ابن الثانية عشرة، إلى العمل ساعياً في تلك الشركة الأمريكية الجديدة.  لم تكن الصدفة وحدها، بل ربما صرفتني كذلك بعض المحن التي أصابت أهلي إلى طرق باب ما كان يدعى ببساطة أرامكو آنذاك، فبقيت داخل أسوارها سبعين عاماً.  لفتت سرعة البديهة والاجتهاد، اللذين تفرضهما غلظة عيشنا، نظر رؤسائي في الشركة. فمنحت فرصة التعليم في المملكة، ثم في لبنان . ولقي اجتهادي وحماستي الشديدان تشجيعاً كبيراً، فدرست الجيولوجيا في جامعة ليهاي في بنسلفينيا، ثم أتبعتها بدراسة الماجستير في جامعة ستانفورد في كالفورنيا.

أسأل عن سر نجاحي فأجيب بتوفيق الله ثم بالاجتهاد، وبعض الحظ، وكسب ثقة رؤسائي في العمل.

وهكذا أصبحت أول رئيس سعودي لشركة أرامكو عام 1984 ، ثمّ أول رئيس تنفيذي بعد تغيير اسم الشركة إلى أرامكو السعودية عام  1988. لم يكن تسلم مناصب كتلك مألوفاً لأبناء البادية، وما كدت أحتفل بهذا النجاح حتى كدر صفوه نشوب حرب الخليج سنة  1990 التي شكلت تهديداً مباشراً للمملكة ولاحتياطها الهائل من النفط. وانتهت الحرب وقد كتب الله لنا النصر بفضله، ثم بحكمة قادة المملكة وبسالة جنودها وشعبها، ودعم أشقائها وحلفائها.

وما زلت أحسبني لا أحفل بتدوين تجربتي إلا أن تقع في أيدي شباب المملكة والوطن العربي، فقد يجدون بين طياتها نموذجاً يحتذى وتجربة يوقف عليها.  وما أنا إلا من نماذج مشرفة كثيرة يزخر بها عالمنا العربي.

 

 

 

شد الرجال – 1935م

 

كنا نغدو مع بزوغ الفجر نسوق قرابة 150 رأساً من الغنم لترعى قريباً من مضاربنا، وكثيراً ما كنا نعود وقد فقدنا من القطيع رأساً أو رأسين.  أدرك خالي سر فقدان الأغنام فقال لي : “يا علي أظن أن ذئباً يأكل غنمكم”. لم اتنبه بصراحة لنقص عددها، فلم أكن أعرف الحساب، بل لم أكن أعرف القراءة ولا الكتابة. انطلقنا مع خالي نقتفي أثر الذئب حتى وصلنا إلى دحل غائر، فجمع بعض فروع الشجر المتناثر حولنا، وطلب إلينا رصها على مدخل الدحل بينما يتولى هو قتل الذئب القابع في الداخل ببندقيته القديمة.  أمرنا خالي أن نراقب الأغصان، فإن لم تهتز بعد سماعنا لإطلاق النار فيعني أنه قتل الذئب، وأما إن اهتزت فيعني أن ذئباً مذعوراً هائجاً قد خرج إلينا، شمرنا أنا ومحمد ثيابنا وربطناها على خصورنا تأهباً للفرار، ولم نكن ندرك نحن الصغيران أن اصطيادنا هو أهون على الذئب من الإمساك بشاة قاصية.  سمعنا دوي الطلقة في الداخل، وبعد لحظات قليلة مرعبة خرج خالي يجر وراءه ذئباً سمنته لحوم شياهنا. قيل لنا فيما بعد إن لحم الذئب يمدنا بالشجاعة.

فالتهمت حصتي من الذئب المسلوخ بلا تردد غير آبه بملوحة طعمه التي لا زلت أذكرها.  وارتديت مثل أخي محمد قلادة فيها ناب انتزعه خالي من فك الذئب، إذ يعتقد الخال بأن الناب يطرد الجن.

ينتمي والدي إبراهيم إلى قبيلة النعيمي، أما والدتي فاطمة فهي من قبيلة العجمان، وكلتاهما قبيلتان ذائعتا الصيت في شبه الجزيرة العربية. أثناء عمل والدي مع خالي في مواسم الغوص لصيد اللؤلؤ، تزوج بوالدتي قبل بلوغها الرابعة عشرة من عمرها.  حملتُ اسم قبيلة والدي، لكني ولدت وترعرعت بين أخوالي العجمان، إذ طلقها أبي بعد عدة سنوات من الزواج، وقد كانت حاملاً بي آنذاك.  قد يستهجن البعض هذا الأمر، لكنه غير مستغرب في البادية، فلم تنبذ والدتي بسبب طلاقها بل أعيدت هي وأولادها بكل بساطة إلى أسرتها الأكبر.  وهناك تزوجت أمي مجدداً، كما كان لأبي أولاد من زوجات أخريات، لكننا لم نكن على تواصل.

أنجبتني في قرية صغيرة تدعى الراكة، وهي اليوم جزء من مدينة الخبر الكبيرة الواقعة شرق المملكة.  ولدت في خيمة الأسرة كحال كثير أمثالي.

انتقلنا بعد ولادتي إلى الصمّان شمال شرق الرياض، إذ تعشب أرضها مع هطول الأمطار، فنقضي فيها الشتاء والربيع.

 

كانت المملكة العربية السعودية تكبر يوماً بعد يوم، وكنت أكبر معها.

 

 

كنز تحت أقدامنا  1945-1935

 

كانت المملكة في أمس الحاجة لمورد يكفل بناءها ويلبي احتياجات مواطنيها.  في تلك الأثناء، أخذ الملك عبد العزيز ومستشاروه يرصدون عن كثب اكتشاف النفط في دولة البحرين، التي كان أميرها آنذاك صديقاً حميماً إلى الملك.  أعطى ذلك الاكتشاف أملاً بوجود النفط في المملكة، مما جعل الملك يبادر لطرح امتياز التنقيب عن النفط في شتى أرجاء البلاد. ولم يكد يمر عام على تأسيس المملكة، حتى منحت شركة “ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا”  )سوكال( الامتياز في ربيع العام 1933 ، فأنشأت بدورها شركة تابعة لها باسم ” كاليفورنيا ارابيان ستاندرد أويل كومباني” )كاسوك(  فكانت البذرة لإحدى أضخم الشركات في العالم : شركة أرامكو السعودية.

لم يكن الانطباع عن الأمريكيين القائمين على صناعة النفط في البحرين بأقل سوءاً عن البريطانيين، فقد كانوا انتهازيين لا يحفلون بغير جني الأموال من النفط.

يكثر بين أبناء البادية الحاذقون في الدلالة والاهتداء في الصحراء، فاستعان الجيولوجيون ببعضهم في وضع خرائط المنطقة، مما رقاهم إلى درجة تتجاوز عمال اليومية بقليل.  وقد اشتهر من بينهم الدليل خميس بن رمثان.  وقع الجيولوجيون مرة في منطقة جرداء لا شيء فيها غير الرمال، فلم تغن عنهم أجهزتهم شيئاً، إذا لا يوجد ما تحدده وترتكز عليه لرسم الخط.  وبينما هم يضربون أخماساً في أسداس، دعاهم خميس من فوق راحلته أن يتبعوه، زاعماً بأنه يستطيع السير في خط مستقيم، فتبعوه وهم بين مشكك ويائس.  وبعد خمسة عشر كيلومتراً تقريباً، أكدت لهم أجهزتهم المتطورة أن خميساً لم يحد عن الخط المستقيم سوي عشرين متراً أو أقل قليلاً، بلا بوصلة ولا أجهزة.

اقترن اسم خميس بن رمثان برجل لا يقل عنه اسطورية، كان هو الآخر ملهما في سنواتي الأولى اسمه ” ماكس ستاينكي “.

بينما كان مصير الشركة ومصير بلادي تتأرجحان حول النفط، واصل ستاينكي محاولاته في الصحراء القاسية.

استمر بالبحث عن دلائل قد تشير إلى الثروة الهائلة التي بدأ واثقاً بأنها حبيسة في قاع الأرض.

في يوم قائظ عاصف من العام 1936 ، حجبت الأتربة فيه الرؤية خلا بضعة أمتار، وعلى الرغم من ذلك كان ستاينكي يلوّ ح بحماسة نحو تلال تقع على بعد عدة كيلومترات. أصر ستاينكي على أن انحدار قمم التلال يشير إلى أنهما يقفان على قبة يختبئ تحتها النفط. أكد ستاينكي لديفيس الذي ملأ وجهه الذهول والعرق على حد سواء أن هذا الموقع هو “حقل النفط السعودي المقبل”. وبالفعل، كشفت أعمال الحفر في تلك البقعة لاحقاً عن حقل أبقيق، ثاني أكبر حقول المملكة البرية.

وأخيراً صدق حدث” ستاينكي”.  ففي 4 مارس 1938 وصلت برقية إلى سان فرانسيسكو تفيد بأن البئر رقم 7تنتج نفطاً بمعدل يتجاوز 1500 برميل في اليوم، وعلى عمق غير مسبوق يقارب 1500 متر فقط، سيسميه الملك عبد الله لاحقاً “بئر الخير”.

لم يعرف الرجلان أن أجلهما بات قريباً.  فأما خميس فقد وافته المنية في الخمسين من عمره متأثراً بمرض السرطان عام 1959 ، بعد أن تبوأ مناصب عديدة في الشركة، وقد أطلق اسمه عام 1974 على حقل نفط )رمثان(  وفاء لذكراه.

 

وأما ستاينكي فقد منح الميدالية الذهبية لجائزة “سيدني باورز” التذكارية عام 1951، والتي تعد أعلى تكريم أمريكي في صناعة النفط.

ولم يمض عام على التكريم حتى رحل ستاينكي عن عمر يناهز الرابعة والخمسين بعد صراع طويل مع المرض.

وقد أطلق اسمه كذلك على قاعة الضيافة الرئيسية في مقر أرامكو بالظهران.

فقد ذكر بارغر في رسالة تروي إحدى أواخر رحلاته الاستكشافية أن خميساً قد قال لستاينكي أن البدو يسمون تل  )أم رقيبة(  الشديد الانحدار )اصبع ستاينكي(  تيمناً بأحد أصابعه التي بتر جزء منها جراء العدوى.

في 1 مايو 1939 فتح الملك عبد العزيز بيده الصمام الذي ضخ أول شحنة نفط سعودي إلى الناقلة الراسية في مرفأ رأس تنورة.

وقد تجلت أولى خطوات هذا الاهتمام بتغيير اسم الشركة الذي أصبح عام 1944 شركة الزيت العربية الأمريكية )أرامكو(.

اتخذت بعضها خطوات عملية لشد أواصر العلاقة، وتوثيق عرى الصداقة بين المملكة والولايات المتحدة. ففي فبراير 1945 ، عقد لقاء على متن سفينة في منطقة قناة السويس بين الملك عبد العزيز والرئيس فرانكلين روزفلت.

 

 

طفولة ورشد – 1945 – 1958

 

كان الولوج إلى منزل حجي بن جاسم، المترجم في شركة، بمثابة عبور بوابة إلى المستقبل، فقد استأجرت الشركة إحدى غرف بيته المتواضع في الخبر، منذ مايو 1940 ، لتجعل منها أولى مدارسها المتخصصة لتعليم السعوديين.

درست بعد ذلك في مدرسة الجبل، التي افتتحت في الحي السكني عام 1941وهي مدرسة خصصت في الأصل لتعليم خدم البيوت، ومساعدي الإداريين.

وسرعان ما أدركت أن حياتي على وشك التغير، فقد أيقظني عبد الله ذات صباح قائلاً  : “إنهض يا علي، أريدك أن ترافقني”، أجبته بأني مرتاح هنا، لكنه ألح بقوله : “فلنذهب إلى المدرسة” وعندما سألته ما المدرسة؟  أجابني : “عندما نصل ستجد أولاداً مثلك”.

كان عبد الله وزملاؤه يقضون في المدرسة أربعة ساعات في الصباح، بدءاً من السابعة، ويعملون لدى )أرامكو(  أربع ساعات بعد الظهيرة، وهاأنذا صرت أحذو حذوهم.  من مسكننا كنا نمشي يومياً خمسة عشر كيلومترا إلى المدرسة سيراً عى الأقدام . ومع أني اتخذت نعالاً في المدرسة كبقية الطلاب، لكني ظللت كأبناء البادية أسير حافياً حاملاً نعالي على كتفي حفاظاً عليها من التلف.  كنا جميعاً طلاباً فقراء، ومع ذلك خيل إلى بأني أفقرهم حالاً، وأبلاهم اسماً، وأشعثهم شعراً، وأرثهم هيئة، وربما أقصرهم قامة أيضاً.  في أحد الأيام سألنا مدرسنا عما نريد أن نكون عندما نكبر، فجاء أغلبنا بإجابات نمطية من أمثال رجل إطفاء أو أستاذ، أو مشرف على الحفر، لكني فاجأت الجميع قائلاً : ” أريد أن أصبح رئيس شركة أرامكو!”

وعلى الرغم من حداثة سننا نحن الطلاب، إلا أننا أدركنا أهمية اقتناص فرصة التعليم، فلم يزغ بنا الطيش، أو يستبد بنا اللهو، بل كنا نمتص المعارف كالإسفنج.

لم يمكني صغر سني من تصور ما كان ينتظرني، وعلى الرغم من أن حياة البادية علمتني أن أكون دوماً على أهبة الاستعداد، لم أكن مستعداً لمواجهة موت أخي عبد الله. لم يتجاوز عبد الله السابعة عشرة من عمره عندما أصيب بالتهاب رئوي قضى عليه.

دعاني شخص من الشركة بعد دفن أخي وقال  : علي”  أنت تحسن القيام بهذا العمل، سنوظفك”. سألته ما معنى ذلك فأجاب بأنهم سيدفعون لي راتباً.

أصبحت موظفاً رسمياً في أرامكو إلى جانب دراستي التي كنت شغوفاً بها فصرت أدفع براتبي إليه شأني شأن كل الأولاد الآخرين الذين عملوا في أرامكو، فكان يعطيني عشرة ريالات، ويعطي أمي عشرين ريالاً، وعشرة ريالات لزوجته، ويبقى خمسين ريالاً لمصروف العائلة.

لكن دوام الحال من المحال، فقد طردت من أول وظيفة لي في أرامكو بعد تسعة أشهر دون ذنب، وذلك إثر إصدار الحكومة السعودية لوائح جديدة للعمل دون سن الثامنة عشرة.

طردت من أربع وظائف في غضون أربعة أشهر.  ولكني في الوقت نفسه تعرفت على ذاتي عن قرب، فأدركت أني كنت فطناً سريع التكيف، وأني كلما اعتمدت على نفسي زاد احترام الناس لي.

عدت إلى أرامكو أخبرهم بأني قد سبق لي العمل عندهم تسعة أشهر.  حاولت أن أمشق عودي وأبسط صدري ما استطعت أمام أحد مسؤوليها، واجتهدت في تغليظ صوتي آملاً في إقناعه : “لست في الثانية عشرة ولا نحوها، بل أنا في العشرين من عمري، ولكني من البادية ونحن قوم قصار القامة.  كما أن أبي أمرد، فلذلك لم ينبت شاربي ولم تظهر لحيتي وأنا أحتاج إلى العمل “. أجابني : “يا علي، نحن نعرفك!  أنت ولد طيب، ولكن لا بد لك من الحصول على إذن الحكومة”. رأيت في قوله بصيص أمل، فطلبت منه خطاباً يفيد بأنه سيوظفني إن سمحت الحكومة بذلك ففعل ” .

بدأ الحظ يحالفني، إذ وجدت أحد مدرسي اللغة العربية السابقين يعمل لدى أمير المنطقة الشرقية، ويدعى عبد الله ملحوق، الذي سيصبح لاحقاً سفيرنا في السودان ثم في اليونان.  أخبرته بحاجتي ممتعضاً ممن افتروا على ابن العشرين فجعلوه في الثانية عشرة.  كان يعرف عمري الحقيقي بالطبع لكنه وافق مشكوراً على مساعدتي فأرسلني إلى الدكتور حسن، وهو طبيب عيون في الدمام.  قال عبد الله ملحوق “إن قال الدكتور حسن إنك في السابعة عشرة، سأعطيك تصريح عمل”. فأجبته : “السابعة عشرة أمرها هين، لأن عمري أصلاً عشرين، وسترى ذلك”.

انفجرت باكياً بدموع القهر وخيبة الأمل.  فلمست منه تعاطفاً شجعني أن أقول: ” صدقني لست في الثانية عشرة، بل أنا في العشرين، ولكني سأقبل بالثامنة عشرة”. فما كان منه إلا أن غير السن إلى ستة عشر عاماً فتماديت في استدرار عطفه: ” د.  حسن أسمع، لن أطلب ثمانية عشر، سأقبل بسبعة عشر”. وقد بدأ يلين أمام إلحاحي، فعجلت عليه بقولي : “اتفقنا؟” وبالفعل اتفقنا.

أسرعت إلى مكتب شؤون الموظفين في أرامكو حاملاً الإفادة بأني في السابعة عشرة، وبما أن السابعة عشرة تصبح  )يمكن 18 ( فقد أعدت على قيد الوظيفة يوم 6 ديسمبر1947  لم أعد أعمل ساعياً، إذ ربما وجدت أرامكو في خبراتي السابقة، أو في مثابرتي في البحث عن عمل، ما أهلني لوظيفة كاتب مبتدئ.  فالتحقت مجدداً بالمدرسة لأربع ساعات يومياً، بدءاً من السابعة صباحاً.

تعلمت البيسبول الأمريكية وكنت أحب الرياضة كسائر الأولاد، لكن ما لم أدركه حينها وأنا ألعب جنباً إلى جنب مع أولئك الأمريكيين أن تلك الأنشطة قامت بتوسيع أفقي، وصقل فهمي لأشخاص يختلفون عني كل الاختلاف.  فعندما التحقت بجامعة ليهاي في بنسلفانيا بعد سنوات عديدة، أثنى رئيس قسم الجيولوجيا على سرعة تكيفي مع الثقافة الأمريكية.  فأدركت أني لن أتمكن من رسم مستقبلي حتى أكبح جماح غضبي، فعاهدت نفسي بألا تفلت أعصابي مرة أخرى.  ومنـذ ذلك الحين، لا أذكر أني فقدت السيطرة عليها، وإن كان لبعض الصحفيين المشاكسين –  الذين يغطون اجتماعات أوبك – رأي آخر.

 

 

ختم الخروج – 1953 – 1559

 

ابتسم لي الحظ مرة أخرى عام 1953  فبعدما رفضت مرتين وقع الاختيار علي أخيراً للدراسة صيفاً في الجامعة الأمريكية في بيروت.  تعرفت في بيروت على علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء، بالإضافة إلى الرياضيات الحديثة .أسرتنا بيروت وجبالها بمناظرها الساحرة وجوّها العليل.

وما كدنا نعود إلى المملكة في سبتمبر من عام 1953 حتى أعلن عمال أرامكو الإضراب، تصاعدت حدة التوتر بين الشركة والموظفين السعوديين ففي يوليو  1945، أضرب العمال السعوديون عن العمل في مصفاة رأس تنورة لعدة أيام، فرفعت أرامكو الأجور على استحياء.

تناولت معظم الشكاوي ظروف العمل القاسية، والأجور المنخفضة وشقاء المعيشة ومحاباة العمال الأجانب.

فرح العمال كثيراً بموقف الحكومة الداعم، والذي أثار استياء أرامكو بكل تأكيد. فقد طالبت الحكومة بأن تتفاوض الشركة مع ممثلين عن العمال السعوديين، ناسفة بذلك سياسة أرامكو في استقبال الشكاوى الفردية فقط.

هكذا أثبتت المملكة أنها تنافح عن مواطنيها. امتدت مفاوضات العمال مع أرامكو عدة أشهر، وفقت بعدها الشركة على تحسين ظروف العمل.

سمح لي المدير بالتحدث مع مسؤولي إدارة التنقيب.  فكانت محطتي الأولى في مكتب لين ميلام جونيور، مدير الشؤون الإدارية. كان رجلاً لطيفاً، وأصبح لاحقاً من الشخصيات الأبوية الأخرى في حياتي، إلى درجة أنه فارق الحياة على سرير مستشفى في تكساس وهو ممسك بيدي.  في ذلك اليوم كنت أدون ملاحظاته ونصائحه.  فلاحظ رموزاً غريبة كنت أسجلها في دفتري من اليسار إلى اليمين، فاستوقفني متسائلاً : ” علي، ألست مشوشاً؟ ظننت أنكم تكتبون العربية من اليمين إلى اليسار، لا العكس”.  أجبته أني أدون الملاحظات بأسلوب الاختزال، فانفجر ضاحكاً.

كان المدير العام من مدينة بيلنغز في ولاية مونتانا واسمه  )سكوت سيغار(، وهو رجل بدين قصير القامة، فظ الطباع، صعب المراس، خشن المعاملة.  سألني: ” لماذا تريد أن تصبح جيولوجياً؟ فهذا عمل قذر، سيضطرك إلى امتطاء آلات الحفر طوال الوقت”، ولا يدري أني ومعظم أبناء جيلي جلوف قد ترعرعنا في الصحراء.  وجدت نفسي أبوح له بسر قديم ورغبة دفينة، وشعرت بأني أقف أمام أستاذي وبين زملائي في مدرسة الجيل، فأجبته بعلو صوتي: “لا بأس في ذلك، فأنا أريد أن أصبح رئيس الشركة”. صدمه جوابي للحظة، ثم قال : “يا بني، هذا أفضل جواب سمعته في حياتي.  مرحباً بك في إدارة التنقيب”.

 

 

الجمل الطائر – 1959 – 1961

 

” أريد العودة إلى الوطن”.  اخترقت هذه الجملة أذن  )بول كايس(  مدير برنامج الابتعاث – بينما هو في الظهران، حين اتصلت به من مقر شركة أرامكو في مانهاتن.  لم يكن قد مضى على وجودي في أمريكا سوى أربعة أيام، لكنها كانت كافية لأصاب بصدمة ثقافية حادة.

طلب مني السيد كايس أن أتحلى بالصبر.  فخرجت بقدر من اللغة البرتغالية أكبر مما تعلموه من الانجليزية والله المستعان.

يتفاجأ الأمريكيون غالباً بروح الدعابة التي نمتلكها نحن السعوديون، ربما بسبب الصورة النمطية التي يتناقلها الإعلام عن شخصية السعودي، ذي اللباس التقليدي، والنظارات الشمسية، فيظهر جاداً رصيناً، بل أقرب إلى الخطر.  لكن سنواتي في أرامكو علمتني أن الأمريكيين والسعوديين يحبون المرح على حدّ سواء.

آنذاك في ترك انطباع حسن، فاتخذت الدعابة وسيلة لتخفيف التوتر، الذي قد يصيب بعض الطلاب الأجانب من هكذا لقاءات.  سألتني إحداهن كيف وصلت إلى أمريكا، أعلى ظهر جمل؟ فأضحك سؤالها بقية النساء.

حاولت توظيف الموقف متذكراً أن طائرة أرامكو من نوع دوغلاس دي سي – 9 التي أقلتنا من المملكة إلى أمريكا في أربعة أيام، كان اسمها فعلاً  “الجمل الطائر “. “نعم أتيت على متن جمل طائر”. فدهشت السيدة، مما اضطرني لشرح الدعابة لها حتى فهمتها.

أدركت معه أن المساومة ديدن كل سوق، وأن الأسعار كلها قابلة للمفاوضة، ليس في أساق بلادي فحسب، بل حتى في أسواق الغرب وفي سائر العالم. اتخذت من هذا مبدأ حتى وأنا على رأس أرامكو السعودية، التي يعتقد المقاولون أنها تدفع أعلى الأسعار على كل مشترياتها من كيس الإسمنت إلى أدق الأجهزة.

فكانت كلمتي التي ظللت أرددها لعقود على مسامع كل المدراء: ساوموا ، ساوموا، ساوموا!

كتاب  )يقظة العرب(  للمفكر جورج أنطونيوس يكاد لا يفارق حقيبتي حينها.  وهو كتاب بالغ الأثر.  لقد كنا مواطنين سعوديين نفخر بوطننا ونخلص له، كما كنا نفاخر بإنجازات العرب في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

بينما كنت في أمريكا، كانت أرامكو تنمو بسرعة في المملكة. فقد كنت على تواصل بزملائي هناك، الذين تجاوزوني في الوظيفة حتى أصبح بعضهم في وظيفة مشرفين، وهو منصب عرض علي بشرط العدول عن الدراسة، فأصبح زملائي بذلك يتقاضون راتباً أعلى من راتبي، مما مكنهم من الزواج وتكوين حياة أسرية، وكم تمنيت لحظتها، العيش مثلهم بسعادة وراحة بال، إلا إني آثرت مواصلة تعليمي والاستفادة القصوى من وجودي في الولايات المتحدة.  فصرت آخذ مواد إضافية لأتقدم في برنامج الدراسة بسرعة، حتى تيسرت لي إمكانية التخرج مبكراً.  فتوقدت في نفسي الرغبة لدراسة الماجستير بدلاً من العودة إلى أرامكو مباشرة فقد كنت أعرف أن كثيراً من كبار المسؤولين في أرامكو يحملون شهادات عليا، فأحببت أن أكون بينهم، متخذاً بذلك من الوزير عبد الله الطريقي، أول وزير للبترول والثروة المعدنية، نموذجاً لي بل لجيلي من الطلاب الطموحين.

ماجستير الجيولوجيا المرموق في جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا.  فتوكلت على الله، وحزمت حقائبي إلى كاليفورنيا.

سيبقى عام 1961 ذكرى لا أنساها، فقد فارق والدي الحياة بعد صراع طويل مع المرض، ضاعف شعوري بفقده عدم قدرتي على حضور جنازته، حتى وإن أرجئت مراسم الدفن، فلم أكن أملك من المال ما يكفي للسفر إلى المملكة ومن ثم العودة إلى أمريكا.  كان خياراً صعباً، خصوصاً لشخص مثلي نشأ في عشيرة متماسكة، وفي الواقع لم تكن كل الخيارات المتعلقة بحياتي الشخصية أو المهنية تبعث على السرور.

 

                 مغامرات صيفية  – 1961 – 1964

في صيف عام 1961 توجهت من ليهاي للعمل لدى هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية.  في البداية، ذهبنا إلى العاصمة واشنطن لمدة أسبوعين، ثم تم تكليفي بعد ذلك بعمل ميداني في مدينة )البوكيركي( ضمن برنامج تقييم أحواض المياه الجوفية في ولايتي أريزونا ونيو مكسيكو.  وكم أفدت من خبرتي التي كونتها خلال ذلك الصيف بعد عودتي إلى المملكة.  فانتهزت الفرصة لسؤال الدكتور ديفيس: ” ما هي متطلبات القبول في ستانفورد؟” ، فأجابني : “سأخبرك بعد أن تعمل معنا أسبوعين”.  لا أعتقد أنني عملت بجد أكبر في حياتي مثلما فعلت في ذلك الصيف “.

بعد أسبوعين عدت وسألته ما إذا كان يراني أهلاً للالتحاق ببرنامج الماجستير في ستانفورد، فأجابني: “حسناً، حسناً!  كل ما عليك فعله هو إرسال رسالة لي، وأنا سأتكفل بالأمر”.

تزوج معظم أبناء جيلي هكذا بترتيب الأهل والأصدقاء، ولا يزال هذا الأمر هو الشائع حتى اليوم.  سبقني كل أصدقائي في المملكة إلى الزواج، أما أنا فقد كنت قاطعاً على نفسي عهد بألا ألحق بالركب حتى أتخرج من الجامعة.  وقبل ستة أشهر من التخرج، أيقنت أن الوقت قد حان.  كنت قد سمعت من زميلي في الجامعة الأمريكية في بيروت، وهو من أسرة النعيمي في البحرين، أن له أختاً صغيرة.  فتوكلت على الله، وكتبت إلى أخيها الأكبر، الذي كان مدرساً في إحدى مدارس أرامكو قرب مجمع مصفاة رأس تنورة، وأخبرته بأني عائد إلى الوطن لمدة أسبوعين لأطلب يدها منه بصفته ولي أمرها.  وبعد عودتي بأيام زرت قريبي في البحرين، فاستقبلني ورحب بي قائلاً إنه متابع لمسيرتي في الدراسة، ومسرور بما حققته من إنجاز.  وحين سألته ما إذا كنت أستطيع رؤية أخته، وافق بكل سرور.  فدخلت فتاة فاتنة الجمال، بهية الطلة، زادها حُسناً شعر مموج شديد السواد، لا تتجاوز السادسة عشرة أو السابعة عشرة، إذ كانت تدرس سنتها الأخيرة في الثانوية.  تلك كانت ظبية! طرح الله بيننا القبول، فتمت الخطبة على الفور، ثم دعي مأذون الأنكحة فعقد قراننا لنصبح زوجين، ولم نفترق منذ ذلك اليوم.

وبعد شهر من وجودنا في ستانفورد، مرضت ظبية فأخذتها إلى مستشفى ستانفورد، لم أعرف ماذا ألم بها فجأة ، فقد كانت صحتها على ما يرام.  وبعد ساعة من الفحص والتحاليل، خرج الطبيب وقال لي: “مبروك، ستصبح أباً!”، فتملكني الذهول والفرح في آن واحد. وبالفعل، ولدت ابنتنا ريم في مستشفى ستانفورد في 22 يوليو 1963م. طرنا بها فرحاً، وقد كانت ولله الحمد طفلة لطيفة الطباع، لم ترهقنا كثيراً وأنا في خضم كتابة رسالة الماجستير.

 

والعود أحمد – 1964 – 1974 –

 

عينت جيولوجياً في قسم التنقيب والإنتاج على المرتبة الحادية عشرة، وهي أول درجات الجيولوجي في السلم الوظيفي، فأصبحت بذلك مسؤولاً عن إصدار تصاريح حفر الآبار في المنطقة الشرقية.

صديقه وزير الزراعة وسأله عما إذا كان يبحث عن بديل لوكيل الوزارة لشؤون المياه.  فاتصل بي الوزير وعرض علي بعد حديث وجيز منصب المدير العام في مقر الوزارة بالرياض براتب شهري قدره 3000 ريال، وذلك تهيئة لأصبح لاحقاً وكيلاً للوزارة. كان الراتب ضعف ما أتقاضاه في أرامكو تقريباً.

أعطاني إجازة استثنائية لمدة سنة بدون راتب أجرب خلالها الوظيفة الحكومية، وفي أول يوم عمل لي، رغبت في إثبات جدارتي كموظف نشيط، فحضرت إلى الوزارة في تمام السابعة صباحاً، وإذ بأبوابها موصدة فلا أثر لأحد من الموظفين ولا حتى الحارس.

 

وما أن التقيت بالموظف الذي سأحل محله، حتى قال لي على عجل: “مرحباً، هذه مفاتيح المكتب، وتلك هي الخزنة”.  ثم ناولني المفاتيح ورحل.

ولعل ما تعلمته في جامعة ستانفورد، والتدريب الذي حصلت عليه في أرامكو، لم يوافقا هوى المقاولين.

فقد قلت لهم: ” لن أعطيكم تصاريح حتى أطلع على كل شيء. أريد النظر في برنامج تغليف البئر.  أريد الاطلاع على كل شيء”.فأجابوا معترضين: “كلا، لا يسير العمل على هذا النحو”. فقلت: ” بل أريده أن يسير على هذا النحو”.

وبعد يومين من معارك مشابهة لم أجد بداً من خوضها، ولا أملاً في درء أسبابها، فاض الكيل فبحثت عن مقعد على متن الخطوط الجوية السعودية يقلني إلى الظهران.  وحين لم أفلح، ركبت سيارة أجرة بمائتي ريال تنقلني من الرياض، ولم أتوقف إلا أمام باب بيتي في الظهران بعد أن انقضى جل يومي في السفر.

آسف مدرائي في أرامكو حين أبلغتهم بما جرى.  أما أنا فسددت قرض الشركة، وعدت لأعمل جيولوجيا في منطقة تدعى جهام.  وبعد مضي أسبوعين قضيناها في التنقيب عن النفط، تلقيت اتصالاً من الظهران يخبرني بأن وزير الزراعة قد اتصل من جدة  )حيث تقضي الحكومة فيها فصل الصيف(، وقد كان يستشيط غضباً لتركي العمل على هذا النحو المفاجئ، فطلب أن أسافر له فوراً، فطرت إلى جدة.  وعندما التقيت به سألني عما جرى فأجبت: “لا يمكنني العمل عندكم يا معالي الوزير”، فقال: ” ألا تعلم بأني استطيع سجنك على ما فعلت؟”. فأجبته بصراحة “أنت تعرفني جيداً يا معالي الوزير، ولا أحسبك اخترتني إلا لأنجز لك العمل على أتم وجه، وأنا لا استطيع القيام بذلك في بيئة عمل كتلك. فالأمر لك، إن شئت سجني فأفعل، ولكني لا أرى في الأمر جدوى فأنا لن أستمر في الوزارة”. ربما أعجبه منطقي، أو لعله تفهم اندفاع الشباب، فصافحني قائلًا: “حسناً في أمان الله إذن” فرجعت مباشرة إلى جهام وبرنامج التنقيب هناك.

انتابني بعض الندم حين تركت فرصة الوظيفة الحكومية. فقد كنا نشعر في ذلك الوقت أن أرامكو لا تلتفت إلى تطورنا الوظيفي – نحن السعوديون – كما يجب ولا نعطى فرصة كافية للتدريب واكتساب الخبرة اللازمتين للوصول إلى الوظائف القيادية.

 

في عام 1966 ، ولد ابني رامي.  فملئت سعادة وفخراً أن رزقت بولد، أصبحت أكنى بأبي رامي، إضافة إلى لقبي المعروف بابن إبراهيم.  وهكذا صارت الأسرة تكبر، وموقعي في أرامكو يكبر كذلك، فقد تقدمت أربع درجات وظيفية بحلول عام 1967 منتظراً بفارغ الصبر ترقيتي التالية، إلا أن الأحداث المحيطة ألقت بظلالها على تقدم مسيرتي المهنية، فبعد أشهر من تصاعد التوتر في الشرق الأوسط، نشبت الحرب بين العرب وإسرائيل في الخامس من يونيو.  ومع انتشار أخبار الصراع في العالم العربي، ترك العديد من العمال السعوديون العمل في العديد من مرافق أرامكو يوم السابع من يونيو.  فخلافاً لما جرى خلال أزمة السويس، اعتبرت الولايات المتحدة حليفة لإسرائيل في الحرب، مما شكل تهديداً للمنشآت النفطية في المملكة وغيرها من الدول.  فقد اقتحمت الحي السكني الذي لم يكن تحت حراسة مشددة آنذاك، مجموعات من الطلاب المتظاهرين من كلية البترول والمعادن المجاورة لمقر الشركة، في يوم عرف لاحقاً باسم “أربعاء الحجارة” عمد فيه المحتجون إلى إلقاء الحجارة على نوافذ السيارات، كما أحرقوا عدداً منها.  ثم توجهوا إلى القنصلية الأمريكية دون أن يحدثوا ضرراً كبيراً في منشآت الشركة أو أن يؤذوا أحداً من موظفيها.  ولا أدري أهناك علاقة بين ما جرى وبين نقلي إلى إدارة العلاقات العامة ذلك العام، ولكن رب ضارة نافعة، فقد أصبحت مرافقاً لزوار الشركة لمعرفتي بتفاصيل العمل من جيولوجيا وتنقيب وإنتاج، وكذلك لإتقاني اللغة الإنجليزية، فالتقيت بالصحفيين الدوليين، واصطحبتهم في جولات حول منشآتنا، وعرفتهم على بلادي.  إلا أني سئمت القيام بهذا العمل بعد عام، فعرض على منصب مدير العلاقات العامة إن بقيت في الإدارة، مع وعد بأن أصبح نائب الرئيس للعلاقات العامة إن أبليت بلاء حسناً.  كان عرضاً مغرياً فمنصب نائب الرئيس رفيع جداً، فلم يتجاوز عدد نواب الرئيس عشرة آنذاك وكلهم من الأمريكان.

فكرت كثيراً بالأمر وقررت أن أطلب النصح من جاري بوب ويلسون، الذي ربطتنا أنا وزوجتي صداقة مقربة بأسرته.  كان بوب عالم رياضيات لامعاً، يحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد.  كنا كثيراً ما نتبادل الزيارات، أو نتنزه ووعد بإحضار الهيكل التنظيمي للشركة لنطلع عليه سوياً.  وفي مساء اليوم التالي، اطلعت معه على الهيكل التنظيمي الذي لم أكن قد رأيته من قبل، فاتضحت أمامي علاقات بعض الإدارات ببعضها وتشابكها فيما بينها كالنجوم في السماء. غير أن بوب لفت نظري إلى إدارة وحيدة في الهيكلة تنتهي بطريق مسدود، كانت تلك إدارة العلاقات العامة، وكان هذا كفيلاً لحسم الأمر!  درست إحدى وعشرين ساعة من مادة الاقتصاد في جامعة ليهاي، ولكن بعد بضعة أشهر أدركت أنه ليس المكان الذي أريد، فقد كان ذلك القسم يعمل في ملكوت بعيد عن العمل الواقعي الذي كنت أحب ممارسته أكثر.

عدت أدراجي إلى قسم التنقيب والإنتاج في صيف 1968 ، وكان بانتظاري دان سوليفان، وهو أمريكي أيرلندي طويل القامة ذو حاجبين أبيضين كثيفين.  قبل أن أتفوه بكلمة واحدة ضحك وقال : “علي، أترغب في العودة إلى العمل؟” فأجبته بأني على أتم الاستعداد للعودة إلى القسم، فعرض علي منصباً في مدينة أبقيق الصغيرة، الواقعة على بعد خمسة وستين كيلومتراً تقريباً من الظهران.  شكل موقع أبقيق وسط الصحراء تقاطعاً ونقطة تجميع لخطوط الأنابيب بين كبريات حقولنا النفطية، وقد استثمرنا فيها عشرات المليارات من الدولارات على مر العقود في منشآت هي الأكبر في العالم في معالجة وتركيز الزيت الخام.  وحتى يومنا هذا، ما زالت نسبة هامة من نفط العالم تمر عبر أبقيق.  في أواخر الستينيات كانت أبقيق على أهميتها أصغر حجماً بكثير من اليوم، ولم تولها أرامكو من العناية في السكن والخدمات ما أولته لسكن الظهران.  وزاد الطين بلة أن الشركة ستجعلني في منصب ملاحظ أشغال على الدرجة التاسعة بعد أن كنت جيولوجيا على الدرجة الخامسة عشرة. علاوة على ذلك، توجب البدء في منتصف شهر أغسطس، وهو أشد شهور السنة حرارة وأكثرها رطوبة في المنطقة الشرقية، إذ لا تقل فيه الحرارة عن 43 درجة مئوية، حتى إنها قد بلغت 51 درجة مئوية في عام 1956 لكني كنت مضطراً لقبول العرض، إن كنت أرغب في إثبات وجودي وتصحيح مسيرتي المهنية، فأخبرت ظبية بأنها ستبقى مع الأطفال في الظهران إلى أن أتمكن من استيعاب عملي الجديد.

وعلى الرغم من أن لكل قسم عدداً من السيارات المكيفة، إلا أني منحت شاحنة صغيرة من دون تكييف، ولكن ذلك لا يضير فتى تعود على حرارة الصحراء.

وصلت إلى أبقيق وقابلت الناظر المسؤول  )هاري أيك(، الذي قال لي إن عليّ أن أعمل أولاً في قسم الآبار لأعرف كل شيء عنها فأخبرته بأني قد عملت بالآبار الاستكشافية كجيولوجي، غير أنه أجاب: ” آبار الإنتاج مختلفة” ثم أرسلني للعمل مع  )جوني سايب(  وهو رجل رائع وعامل جاد رغم أنه لا يحمل أي مؤهل جامعي.

وخلال الأشهر التالية، قمنا بجولات في حقول النفط، وأخذنا نقيس الضغط ودرجات الحرارة في الآبار.  وفي يوم من أيام الربيع في عام 1969 ، قال لي )سايب( إن البئر رقم 17  في عين دار قد جفت، وكان المهندسون قد جربوا كل وسيلة لسحب النفط بلا جدوى، فسألني ما إذا كنت أستطيع فعل شيء، فوعدته بالمحاولة.  ثم اكتشفت أن لنا خط غاز يمر جوارنا يبلغ ضغطه الهائل 3000 رطل، فسألت  )سايب(  ما إذا كان في مقدورة ثقب الأنبوب وتوصيل خط الغاز بالبئر، فأجاب بالإمكان إن رسمت له مخططاً واضحاً بالمطلوب.  فرسمت المخطط وقام بثقب الخط أثناء تدفق الغاز، ثم أدخل صماماً ووصلناه بالبئر الجافة. كانت تلك المرة الأولى التي يستخدم فيها أسلوب كهذا في أرامكو على حد علمي.

لم يعد في وسعنا سوى الانتظار.  طلبت من )سايب( العودة إلى بيته تلك الليلة، وبقيت أنا وأحمد – المشرف على الإنتاج – بجوار البئر طيلة الليل، فتزملنا بأكياس النوم في صحن سيارتي خوفاً من الأفاعي والدواب.

وعند الثالثة فجراً، أتانا هزيم خفيف من البئر عرفنا معه أن الغاز قد فتح مجراها المغلق فأخذت تنفث الأبخرة وتقذف بالصخور من فوهتها. وقد كان لكل بئر نشطة شعلة تحرق الغازات المصاحبة، فصار لهب شعلتنا يرى على بعد أميال، بينما كنا نحكم السيطرة على النفط الذي تدفق فأغرق ثيابنا.  بزغ الفجر عند الخامسة تقريباً، فإذا بالسيد )سايب(  يقبل علينا بشاحنته يشق الصحراء، وما إن وصل حتى ترجل منها والبسمة تملأ محياه، هاتفاً بصوت يعلو هدير الشعلة: ” رأيت تأجج اللهب، لقد فعلتها يا علي” ” لقد فعلتها يا علي”، ثم ناولنا علبة من الفطائر المحلاة للإفطار.

أخبرته بأننا نجحنا جميعاً، فابتسم أحمد هذه المرة، غير أن )سايب( لم يأبه لما كنت أقوله على الزميل السعودي الذي شارك في هذا النجاح، بل قال لي: “أنا ذاهب لرؤية المدير وإخباره بما فعلت”. فسألته إلى أي شيء يرمي، فأجاب: “كان كل ذلك اختباراً لك”.

وبالفعل عينت ناظراً لقسم الانتاج في أبقيق في 1 أبريل 1969 ، وكنت أول سعودي يحتل ذلك المنصب.

ولدت ابنتي ندى عام 1970 كانت طفلة رائعة أضفت على منزلنا سعادة تنسيني إحباطات العمل.  ولكن الأمور أخذت تتحسن، ففي عام 1972 ، رقيت إلى المدير المساعد للإنتاج ثم بعد عام مدير الإنتاج في المنطقة الشمالية.  فصرت بذلك السعودي الثالث الذي يبلغ هذا المستوى. جعلتني مسؤوليات الإدارة كثير الانشغال، لكني حاولت تخصيص وقت لأسرتي.  فكنت استمتع باصطحاب الأولاد لصيد السمك والسباحة في شاطئ نصف القمر، أو للتنزه في الصحراء.

لم تكن بيئة أرامكو بمعزل عن اهتمام وسائل الاعلام الغربية، سواء في ما يخص حقول النفط أم الجالية الأمريكية التي تعيش في الظهران.  ففي عام 1972 زارنا البرنامج التلفزيوني الشهير (60 ) دقيقة الذي تعرضه قناة سي بي اس. فقد أراد منتجو القناة مقارنة حياة الجالية الأمريكية في أرامكو وحياة الأسرة السعودية.

فوقع الاختيار على أسرتي لتمثيل السعوديين، مقابل أسرة أحد جيراننا الأمريكيين في أبقيق اسمه )بوب لتريل( وقد خشيت إدارة العلاقات العامة أن يظهر فريق سي بي سي تحيز الشركة للأمريكيين على حساب السعوديين، ولكن ما تم عرضه كان هو الواقع، فقد وجدوا أن مستوى معيشتنا لا يختلف كثيراً.  فأطفالنا يرتادون المدارس نفسها، وزوجاتنا يتزاورن.

وفي أحد الأيام بينما كنت عاكفاً كعادتي على عدة مشاريع، سمعت طرقاً على باب مكتبي المتهالك، فإذا بالرئيس التنفيذي لأرامكو )فرانك جونكرز(  يدلف إلى المكتب مرتدياً زي العمل الرسمي المكون من حذاء طويل وبنطال زيتي اللون وقميص قصير الكم دون ربطة عنق. قال لي: ” يا علي، هلم نتجول بالسيارة” فطاوعته علماً بأن لدي من العمل ما لا أجد له وقتاً، فما بالك بالأعباء الملقاة على كاهله هو، ولكنه الرئيس وعلي الامتثال لأمره.  لقد توطدت علاقتنا على مر السنوات، فما عاد حضوره إلى مكتبي يشعرني بالرهبة، إلا أن الفضول تملكني خلال جولتنا في سيارته حول حرم الشركة.  كان يسألني عن أخباري، وأُمور أخرى لا هدف لها، فامتدت جولتنا تلك قرابة الساعة على ذلك النحو حتى بدأت أشعر بالضيق.  وأخيراً أوقف  )جونكرز( السيارة أمام مبنى الإدارة الرئيسي، ثم التفت إلي قائلاً : ” تهانينا يا عليّ، لقد أصبحت الآن أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في الشركة”. أحسست بذهول وحرج كبير منعني من استيضاح كلامه، إلا أنه استطرد بأن مجلس إدارة أرامكو قد صوت صباح اليوم 1 مايو 1975 على تعييني نائباً لرئيس الشركة.

ضحك وقال : “يعني أن لك الحق قانونياً بالتوقيع باسم الشركة في حال غياب الرئيس وكبار المسؤولين الآخرين”. كان الخبر مفاجئاً، إذ لم أكد أبلغ أربعين سنة، وأنال ترقية لأربع درجات كاملة من المرتبة التاسعة عشرة إلى الثالثة والعشرين، تلك الترقية هي الأولى من نوعها في تاريخ أرامكو، ولقد زاد من قيمتها أنها لم تكن في منصب للخدمات المساندة كالعلاقات العامة، بل كنت أول سعودي يصبح نائباً للرئيس في قطاع تشغيلي.

جعلتني تلك التجربة أعيد النظر في العديد من ممارساتنا الحالية، وإيجاد حلول اقتصادية لمشاكلنا التشغيلية، ولا سيما أن منصب نائب الرئيس يتيح لي الاطلاع على كل شيء. من بين كل ذلك كنت أراجع الفواتير في أحد الأيام، فوقعت عيناي على فاتورة غريبة لم أصدق محتواها بادئ الأمر، إذ كانت فاتورة استيراد شحنة رمال من ولاية وايومينغ بأمريكا. أصابني الذهول من هذه الفاتورة المكلفة، فكيف نستورد الرمال ونحن المحاطون بالرمال من كل جانب؟ طرحت السؤال على المدير العام الأمريكي المسؤول عن المشروع، الذي علل الأمر بأن لحبيبات رمال وايومينغ خصائص معينة وشكلاً يجعلها مثالية للاستخدام في مرشحات معينة في الإنتاج، وأردف بأننا نستورد تلك الرمال منذ سنوات.  فقلت له إني على يقين من أن شركة تعج بعلماء الجيولوجيا لن تعجز عن إيجاد رمال مناسبة في صحارينا.  وكما توقعت، ما إن بدأ فريقنا بفحص أنواع الرمال المحلية حتى وجدوا نوعاً يستوفي المواصفات المطلوبة.

 

أنا مستعد لمرافقتك يا سام إلى أي مكان حتى إلى سطح القمر.

يبدو أن الستار قد أسدل على تلك الأيام الحلوة، ففي إحدى ليالي شهر مارس من عام 2005 تلقيت اتصالاً دولياً على خطي الخاص في الرياض.  كنت أعرف أن صديقي  )سام(  قد تمكن منه مرض السرطان، فأتاني ليلتها صوت زوجته  )فلورانس(  ليخبرني بأن صديقي قد فارق الحياة.  قالت )فلورانس(  بأن  )سام( أوصى وهو على فراش الموت بأن أدعيك لجنازته.  فغادرت على الفور، متخذاً التدابير للوصول إلى ميدلاند وحضور جنازة رفيقي، ثم العودة إلى الظهران لحضور عدد من الاجتماعات وغيرها من الالتزامات التي كانت مجدولة منذ أشهر.  ولا شك بأنها رحلة شاقة، لكنها كانت أقل ما أقوم به تجاه أخلص صديق لي.  فلتلك الصداقة الطويلة قيمة كبيرة عندي، ولا أبالغ إن قلت بأنها ساعدتني على فهم أمريكا وأهلها بعمق أكبر.  فقد اقتصر احتكاكي بهم قبل ذلك على موظفي أرامكو وزملاء الدراسة، ولكن معرفة )سام( أضافت لي بعداً آخر فهمت به أبناء تكساس، ولمست روحهم الحرة التي تجعل تلك الولاية فريدة من نوعها.

 

وستثبت العقود القادمة بأن فهمي لأمريكا وأهلها من أهم مهاراتي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السلم والثعبان 1983 – 1977

 

كانت أخبار الشرق الأوسط هي حديث الساعة في وسائل الإعلام أواخر سبعينيات القرن العشرين.

فمع نهاية عام 1977 ومطلع عام 1978 ، احتدمت المظاهرات المناهضة لحكم الشاه في شوارع طهران، وانتشرت أصداؤها عبر المدن الإيرانية الكبرى، فأخذ زمام الأمور يفلت شيئاً فشيئاً من يد حكومة الشاه حتى أصيبت البلاد بالشلل أواخر عام 1978 كنا نولي أمر إيران اهتماماً خاصاً بما أنها منتج رئيسي للنفط.

تراجعت صادراته اليومية من  5,4 ملايين برميل تقريباً إلى ما دون المليون خلال شهري سبتمبر ونوفمبر من ذلك العام. حتى جاء يوم 25 ديسمبر، فأغلقت إيران صنابير نفطها، وأوقفت تصديرها. ولم يجد الشاه بداً من مغادرة البلاد، فاستقل طائرته في 16 يناير 1979  متجها إلى مصر.

عمت الفوضى أسواق النفط العالمية، ولقد سدت المملكة بزيادة إنتاجها جزءاً من فجوة الاحتياج التي خلفها توقف تصدير النفط الإيراني، وذلك بأن رفعت إنتاجها اليومي إلى 10,5 ملايين برميل بعد أن كان 8,5 عام 1978  ثم خفض هذا الرقم تدريجياً مع عودة النفط الإيراني إلى السوق، وحافظت المملكة على استقرار سعر البرميل عند 18 دولاراً للبرميل، وهو أقل بكثير من سعره في السوق الفورية، أو حتى سعر أوبك الرسمي.

ورغم ذلك كله، تضاعفت أسعار النفط بسرعة في الأسواق العالمية، وعرضت نشرات الأخبار الأمريكية صور الأمريكيين وهم يصطفون في طوابير طويلة خارج محطات الوقود لتعبئة سياراتهم.

أمطرت الأزمة الإيرانية أرباحاً غير متوقعة على الدول المنتجة للنفط، وإن لم يكن الوزير أحمد يماني مرتاحاً  لهذا . فقد صرح الوزير خلال السبعينيات بأن سياسة حظر النفط عام 1974-1973 لم تنجح بل جرت علينا أمور كلها لا تصب في صالح المملكة ولا غالبية أعضاء )أوبك( الآخرين، إذ دفعت الدول ذات الأنظمة الاقتصادية القوية إلى ترشيد استهلاك الطاقة، وزيادة تطوير مصادر للطاقة البديلة، إضافة إلى تكثيف البحث عن مكامن للنفط خارج منطقة الشرق الأوسط.

كان منطق الوزير سليماً، لكنه لم يتغلب على إغراء الأرباح في عيون الدول المنتجة.  فاستمر سعر النفط بالتحليق، أضف إلى ذلك زيادة طلب الولايات المتحدة ودول أخرى للنفط، واندلاع الحرب بين إيران والعراق في خريف 1980 ، مما جعل سعر البرميل يفوق 40 دولاراً عام .1981

تأثرت أسعار النفط بحادثتين مأساويين حدثا في نوفمبر من عام 1979 ، أحدهما في طهران، أما الآخر فكان في مكة المكرمة.  ففي الرابع من نوفمبر، اقتحم طلاب ومتطرفين آخرون السفارة الأمريكية في طهران، واحتجزوا ثلاثاً وستين رهينة أمريكية.  دامت أزمة الرهائن لأكثر من عام.

أما في مكة فقد اقتحمت فئة متطرفة المسجد الحرام خلال موسم الحج يوم 20 نوفمبر 1979 ، الذي وافق اليوم الأول من العام الهجري 1400 ، واحتجزت عشرات الرهائن.

 

وما أن انفجرت تلك الأحداث حتى شهدت مسيرتي المهنية تقدماً كبيراً . فقد ارتفعت مهنية الموظفين السعوديين خلال الثمانينيات، بما في ذلك موظفي أرامكو الذين باتوا يساهمون في رسم مستقبلها، ومن ذلك انتخابي عام 1980 عضواً في مجلس إدارة أرامكو.  وكان شرفاً عظيماً أن احتل مقعداً على طاولة صنع القرار في الشركة.  وفي العام نفسه استحوذت الحكومة السعودية رسمياً على شركة أرامكو بالكامل.

من وجهة النظر السعودية، لا غرابة في الأمر الذي سيظل قائماً حتى عام 1988 ، أي عندما ينقل التشغيل بأكمله إلى الحكومة السعودية. فقد رأى الوزير أحمد يماني وآخرون أخطاء الدول الأخرى التي تسرعت في تأميم الأصول الأجنبية، وقرروا الحفاظ على علاقات وثيقة مع الأمريكان ومواصلة الاستفادة من خبراتهم. وحتى يومنا ما زالت نسبة العمال الأجانب بحدود 15 بالمائة من القوى العاملة في أرامكو السعودية، حرصاً من الشركة على الاستمرار في استقطاب الكفاءات والخبرات التقنية، وجلب أحدث الابتكارات.

زخرت أرامكو بنماذج من أولئك السيدات اللاتي ترفعن في سلم الشركة حيث تولين مناصب قيادية عليا.  فأول مهندسة بترول في أرامكو كنت نائلة موصلي، التي تعد من خيرة موظفاتنا الرائدات. إذ يعتبر إنجازها فخراً لأي بلد في ظل ندرة مهندسات البترول خلال الثمانينيات، بل حتى في يومنا هذا، مما فيه دليل على مهاراتها وتصميمها على النجاح.  كذلك هدى الغصن التي توظفت في أرامكو عام 1981 ، وبحلول عام 2007 أصبحت أول امرأة تتبوأ مقعداً في مجلس إدارة إحدى شركاتنا التابعة )فيلا انترناشونال مارين المحدودة(، كما أصبحت لاحقاً المديرة التنفيذية للموارد البشرية في أرامكو السعودية.  أما نبيلة التونسي فحصلت على بكالوريوس هندسة كهربائية وعلى درجة الماجستير في نظم المعلومات والكمبيوتر من جامعة ولاية أوريغون وانضمت إلى أرامكو أواخر عام 1988  وخلال وقت قصير، أصبحت مسؤولة عن كتابة التعليمات البرمجية لكمبيوتر أيبي إم المركزي في )اكسبك(، حتى أصبحت كبير المهندسين في قطاع الخدمات الهندسية في الشركة. أما فاطمة العوامي فقد عادت إلى أرامكو بعد حصولها على شهادة البكالوريوس في هندسة البترول من جامعة جنوب كاليفورنيا، للعمل في محاكاة المكامن في مجمع )اكسبك( عام  .1984

أقر الافتتاح الرسمي لمركز )اكسبك( في 16 مايو 1983وصادف ذلك الذكرى الخمسين.  لتوقيع اتفاقية الامتياز التي منحت شركة )ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا(  حق التنقيب عن النفط في معظم أنحاء شرق المملكة العربية السعودية.  كان الحفل برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله، الذي حرص على تكريم كل من بذل جهوداً عظيمة من السعوديين وغير السعوديين على حد سواء، وساهم في جعل أرامكو ما هي عليه اليوم.  وكما جرت العادة في مثل هذه المناسبات أن يلقي وزير البترول كلمته، إلا أن الوزير أحمد زكي يماني فاجأ معظم الحضور وأنا من بينهم، إذ قال في كلمته: ” أصبحت أرامكو منشأة سعودية تحدث لغتنا.  ونأمل ألا تغيب شمس هذا العام إلا وقد اعتلى سعودي هرم هذه الشركة”. وبالطبع لن يصرح الوزير بهذا دون الحصول على الموافقة السامية.

 

 

 

كنت أنا والسيد )جون كلبرير( الرئيس التنفيذي – عضوين في مجلس إدارة الشركة، وقد خططنا مسبقاً للسفر في ذلك اليوم لحضور اجتماع مجلس الإدارة المقرر في الولايات المتحدة.  فالتفت إلى ونحن نستقل طائرة )غولف ستريم( المتوجهة إلى محطتنا الأولى في لندن، وسألني: “ما رأيك يا علي؟ هل يجدر بي أن أقلق؟”. ومع أنه قال ذلك ضاحكاً إلا أنه بدا لي جاداً بعض الشيء.  فقد رقيت إلى منصب نائب رئيس تنفيذي عام 1982 ، وكان منصباً مستحدثاً لا يحمل لي في الواقع مسؤوليات جديدة، فظننت كما ظن الجميع بأني الرئيس القادم.  ومع أن ترقيتي التالية لم تكن تلوح في الأفق، إلا أن كلام الوزير زاد رجائي في أن أكون أنا المقصود. فالتفت إلى )كلبرير(  وأجبته: ” جون، لا تقلق.  أعتقد أن  )هيو غورنر(  هو من يفترض به أن يقلق”. وبعد انتهاء اجتماع المجلس، أخذني الوزير جانباً وقال لي: ” لقد أمر الملك بأن تصبح أنت رئيس الشركة”. وهكذا انتخبني مجلس الإدارة في نوفمبر من عام 1983 ، فتوليت مهام منصبي في يناير من العام التالي.

عندما أعلن الوزير أحمد زكي يماني انتخابي أول رئيس سعودي لأرامكو، أكد بأني نلت ذلك عن جدارة واستحقاق، وأن اختياري لم يأت عبثاً أو رغبة في سعودة وهمية، بل لأني نلت المنصب على حد قوله بعرق الجبين، ولأني بنيت نفسي من الصفر وساعدت في بناء الآخرين. فشعرت بالاعتزاز بهذه الشهادة، وبالقلق أمام حجم المسؤولية الملقاة على كاهلي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إن مع العسر يسرا – 1984- 1989

 

كانت فترة أواسط الثمانينيات من أصعب فترات حياتي المهنية.  فقد بدأت أسعار النفط في الهبوط قبل عامين من تبوئي منصب رئيس الشركة في يناير 1984 ، حتى انهارت تماماً بحلول عام 1986 فتقلص إنتاجنا، مما أدى بطبيعة الحال إلى تقلص عائداتنا وانخفاض مساهمة أرامكو في إيرادات المملكة. إلا أننا كافحنا خلال السنوات الخمس التالية لمواجهة التحديات في الخارج والداخل على حد سواء، ولأكثر من مرة كانت قدرتنا على التلاحم والتكاتف من أجل الاستمرار.  وبعد ثلاثة عقود، ما زالت دروس الثمانينيات التي تعلمتها عن منافسينا وعن عملائنا وعن أنفسنا قابلة للتطبيق لتجاوز التحديات التي واجهتنا وأنا وزير للبترول والثروة المعدنية.

فالنفط سلعة كغيره من السلع، غالباً ما تتحرك سوقه على نحو غير متوقع، مما يصعب أمر اتخاذ قرار حاسم في وقت محدد بالضبط، فعلى سبيل المثال، رفعت المملكة في أكتوبر 1981  سعــــر برميل النفــط من 32  إلى 34  دولاراً وذلك بخفض إنتاجها اليومي إلى 8,5 مليون برميل، وهو الحد الذي كان معمولاً به قبل خفض إيران المفاجئ لإنتاجها بسبب الثورة وبينما عمدت دول أخرى من أعضاء أوبك إلى خفض أسعارها من 36 إلى 34 دولاراً لمجاراتنا، كانت الأسعار التي يعرضها تجار النفط في السوق الفورية الاستراتيجية التي وضعتها أرامكو في أواخر السبعينيات. فكأي شركة نفط عالمية، وضعت أرامكو استراتيجيتها وتخطيطها بناء على توقعات باستمرار الطلب العالمي القوي على النفط.  فجعلت من أهدافها تكثيف التوظيف والتدريب، الذي كان من مرتكزات النمو المستقبلي للشركة.  غير أن الطلب على النفط كان أقل من المتوقع.  بل تحقق ما تنبأ به الوزير أحمد زكي يماني، إذ أدى الحظر الذي فرض على النفط عام 1973  إلى حزمة تغيرات دولية في توجهات الاستهلاك أثرت في أسعار النفط بشكل فاق كل التوقعات، وإن أخذ أثرها بالظهور تدريجياً.

ففي عام 1975 ، أصدر الكونغرس تشريعاً يقضي بمضاعفة متوسط كفاءة الوقود في المركبات التي تسير على الطرقات الأمريكية. كما خفضت الشركات استهلاكها للنفط خلال تلك الفترة بعدة وسائل من بينها تحسين عزل الأبنية، واتخاذ عمليات تصنيع أكثر كفاءة والتحول إلى مصادر الطاقة البديلة . ونتيجة لتلك التدابير، أصبحت الولايات المتحدة في أواسط الثمانينيات أكثر توفيراً للطاقة بنسبة 25 بالمائة عما كانت عليه قبل حظر1973 وكان الأمر أكثر وضوحاً في اليابان وعدد من الدول الأوروبية التي نهجت النهج نفسه.  وعلى الرغم من وعي الشركات والمستهلكين المطرد لأهمية الحفاظ على الطاقة في مطلع الثمانينيات، إلا أن ذلك لم يجد نفعاً للحيلولة دون أزمة ألمت بمعظم النظم الاقتصادية المتقدمة، لا يفوقها سوءاً كساد الثلاثينيات الكبير.

فقد تسارع التضخم قبل أن تؤدي الأزمة الإيرانية إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط، فاستقر في نية )رونالد ريغان(  وهو يدخل البيت الأبيض أن يحل تلك المسألة وإن كان على حساب نمو الولايات المتحدة الاقتصادي على المدى القصير، كما انتهجت رئيسة وزراء بريطانيا )مارغريت تاتشر( سياسة مشابهة، فارتفعت معدلات الفائدة في الولايات المتحدة إلى 20 بالمائة، كما حلقت معدلات البطالة عالياً.  فعانى الاقتصاد الأمريكي من انكماش موجع سنة 1980 ، وتكرر انكماش الاقتصاد سنة 1982 ، مما قلل الطلب على النفط بشكل ملحوظ.

جدير بالذكر أن المتغيرات التي دخلت في معادلة إنتاج النفط خلال السبعينيات ثلاثة أضعاف ما كنت عليه مما شجع على مزيد من التنقيب والإنتاج في كثير من المناطق، وبطرائق لم تكن لتؤخذ بعين الاعتبار لو كان برميل النفط يتداول ببضع دولارات.  ولهذا ارتفع إنتاج النفط في الدول من خارج الأوبك، ليصبح منحدر ألاسكا الشمالي وبحر الرشمال، فضلاً عن المكسيك، ينتجون ملايين البراميل سنة 1982 متجاوزين بذلك إنتاج دول أوبك للمرة الأولى منذ إنشاء المنظمة.  وقد صرح أحمد زكي يماني في مطلع عام 1983 بأن السعر الذي تفرضه أوبك على النفط مرتفع جداً في ظل تراجع الطلب العالمي عليه.  كما زاد من الضغوط على نظام التسعير في أوبك بدء تداول النفط الخام بعقود آجلة، ولا سيما خام غرب تكساس الوسيط، وذلك في بورصة نيويورك التجارية  )نايمكس(  في 30  مارس 1983 ، فشكلت العقود الآجلة مؤشراً بديلاً للتسعير العالمي.

واعتماداً على تلك المعطيات، خفضت أوبك في مايو 1983 السعر الرسمي لبرميل النفط من 34 إلى 29 دولاراً، كما وافق أعضاء أوبك على تقليل حصص الإنتاج.  وقد ذكر للمرة الأولى في البيان الصادر عن ذلك الاجتماع أن المملكة العربية السعودية هي المنتج المرجح في أوبك، أي أنها تلتزم برفع الإنتاج أو خفضه بحسب الحاجة، وذلك للحفاظ على السعر المستهدف. ولكن ستثبت الأيام أنه لم يكن قراراً حكيماً على الإطلاق.

علينا أن نعرف أن مهمة وزير البترول السعودي هي رسم السياسة النفطية بتوجيه من الملك وبمشورة من مستشاريه، أما مهمة أرامكو في تنفيذ تلك السياسة بأمر من الملك.  وفي رأيي المتواضع أن أحمد زكي يماني كان في ذروة عطائه خلال السبعينيات حين سعى في اتفاق الشراكة بين المملكة وشركات النفط الأربع المالكة لأرامكو، مسخراً كل معرفته ومهاراته كمحام قدير لنقل ملكية الشركة ببراعة وعلى نحو عادل وودي.

ولا يسع المجال مهما أسهبنا في الحديث عن أهميته ذلك للمملكة ولأرامكو على حد سواء، فضلاً عن ضمان استقرار صناعة النفط العالمية. ولكن مهما تكلل ذلك الأمر بالنجاح إلا أن الوزير أحمد يماني – في نهاية المطاف – ليس خبيراً في صناعة النفط فه, لم يعمل في تلك الصناعة قط، ولم يدرس علوم النفط في الجامعة.  فأدى بزجه بالمملكة للعب دور )المنتج المرجح( إلى تقليص إنتاجنا لدعم الأسعار، فخسرنا إيرادات كنا بأمس الحاجة إليها، فضلاً عن تقليص حصتنا السوقية.  وعندما رفعنا الإنتاج لاستعادة حصة سوقية أكبر انهارت أسعار النفط العالمية، مما كلف المملكة ثمناً باهظاً.

تتطلب الأوقات الصعبة قرارات صعبة، وقد أوكلت إلى أصعب مهمة في حياتي المهنية حتى قبل أن أترأس الشركة، ألا وهي خفض أعداد الموظفين إلى حد يقلل من نفقاتنا.  فقد كانت إيراداتنا تتراجع في بداية الثمانينيات، ومع ذلك كنا ملتزمين بخطة التوظيف والتدريب كما لو أن أسعار النفط ستبقى دائماً في بحر 40دولاراً . وقد أخذت على عاتقي لسنوات تطوير موظفينا ورفع كفاءتهم ابتداء من متدربي المرحلة الثانوية وحتى كبار القادة.  ففي بادئ الأمر قدرنا أننا سنحتاج إلى 75 ألف موظف بحلول عام 1985 ، ولكن اتضح لنا بحلول عام 1983 بأننا بالغنا في تلك التقديرات فقررنا تسريح جزء من الموظفين بما يتماشى مع عائداتنا المتراجعة، من دون أن يضر كثيراً بقدرتنا على النمو في المستقبل.  وهكذا انخفض عدد موظفينا من 61227في عام 1982 إلى 43500 في عام 1987  كان اتخاذ القرار صعباً بلا شك، ولكن كان تنفيذه أصعب! فقد كنت أعرف كثيراً من أولئك الذين اضطررت إلى تسريحهم، بل كان بعضهم أصدقاء، غير أن مستقبل أرامكو كان على المحك.

أغلب الموظفين المسرحين كانوا من غير السعوديين، ومن الإجراءات التي اتخذناها خلال تلك الفترة هو تعجيل تقاعد بعضهم، فتجاوز عدد من غادرونا 14 ألف موظف في أواسط الثمانينيات.

صاحب خفض تكاليف العمالة انخفاضاً في إنتاج النفط، مما أدى إلى تراجع كمية الغاز المصاحب.  والمشكلة أن تصميم شبكة إمدادات الغاز الرئيسية ممتد على ارتفاع إنتاج النفط بمعدل 12 إلى 15 مليون برميل يومياً، ليقابله ارتفاع في إنتاج الغاز المصاحب.  ولكن سرعان ما بدت المبالغة واضحة في تلك الأرقام، فأصبحنا نواجه مشكلة احتمال نقص إنتاج الغاز الذي قد غدى رافداً مهماً لاقتصادنا. إلا أن الحل كان يكمن حرفياً تحت أقدامنا،فقد اكتشفت أرامكو في أواخر الأربعينيات حقلاً كبيراً من )الغاز الحر(  يقع على عمق 650 متراً تحت الطبقة الجيولوجية العربية، التي كانت تحتوي على الجزء الأكبر من النفط في المنطقة الشرقية. لم نكن في ذلك الوقت نستخدم الغاز الحر )أو ما يعرف أيضاً بالغاز غير المصاحب( الكامن في تكوين )خف(، بل اعتبر غازاً خطيراً لاحتوائه على مركبات سامة مثل كبريتيد الهيدروجين. إلا أن فريقاً مبدعاً قام بمعالجة المسألة تحت إشراف السيد )إيد برايس(، وهو أحد نواب الرئيس الذين أعرفهم وأقدر عملهم منذ كان في تكساس قبل عشر سنوات يعمل لدى )شيفرون( إحدى شركاتنا الأم.  وضعت مجموعة )إيد(  برنامجاً لتمديد بعض آبار النفط في المناطق التي يرتفع فيها احتمال العثور على غاز تكوين خفّ، لكن الفريق أدرك بأنه لن يحصل على تمويل لبرنامج جديد في ظل سياسة خفض النفقات الحالية، فقرر أن يطالب بالحفر على أعماق جديدة كجزء من برنامج الترسيم الهيكلي، وهو برنامج مستمر نجمع من خلاله معلومات عن الطبقات الصخرية لكل بئر يتم حفرها.

شهد برنامج التنقيب عن الغاز نجاحاً منقطع النظير.  وأصبحت أرامكو بحلول عام 1985 قادرة على إنتاج مليار قدم مكعبة قياسية يومياً من الغاز غير المصاحب، فضلاً عن معالجته وإرساله إلى شبكة الغاز عبر المملكة.

عاد إلى ذهني خلال سنواتي الأولى كرئيس لأرامكو المثل الشعبي القائل “إذا طاح الجمل كثرت سكاكينه” فقد كان الجمل أرامكو في أواسط الثمانينيات، وأما السكاكين فحملها مع الأسف سعوديون من أصحاب الأهواء والمصالح الشخصية، الذين اعتبروا أرامكو رمزاً للنفوذ الأجنبي وهيمنة المستعمر.  فعلى الرغم من تملك الحكومة لكامل أرامكو منذ عام 1980  ، ظل البعض يصمنا بعلاقتنا بالملاك السابقين. فانتهزوا فرصة الظروف العصيبة التي تمر بها أرامكو للمطالبة بوضع موارد المملكة النفطية بين أياد سعودية أمينة، متوهمين أنها لم تكن كذلك. وأحسب أن كل من نادى بذلك كان يشعر بالضعف والغيرة والحسد، فقد أسست أرامكو على مبدأ الجدارة، وتكفي إشادة جميع ملوك المملكة بهذه المنشأة التي مكنت السعوديين الموهوبين من التقدم في صفوفها بالعمل الجاد والكفاءة، وليس بفضل العلاقات الشخصية كما هو الحال في أغلب الشركات والدوائر في المنطقة.

كلفت عبد الله جمعة بشؤون الاتصالات الخارجية بصفته محاوراً متمرساً، فوجدته الأنسب لهذه المهمة التي أداها على أكمل وجه.  فشرح موقفنا خلال الأزمة للسيد )فيليب شينون(، المراسل الحربي المخضرم لصحيفة نيويورك تايمز، فقال : “نحن لا نستبقي أحداً رغماً عنه، بل نخبر موظفينا بأننا بحاجة إليهم، ولا سيما ــــــــــــــــ، ونقول لهم إن رحلتم، سيكون عليكم التنازل عن بعض الأمور التي يمكن أن تكون من نصيبكم لو بقيتم”.

 

رحل عدد ضئيل من العمالة الوافدة، فحازوا على قدر كبير من اهتمام وسائل الإعلام، أما الغالبية العظمى فبقوا معنا وعملوا جنباً إلى جنب مع السعوديين للمساعدة في الوفاء بالتزاماتنا.  واحتفظ كثيرون بحقائب عند الباب مليئة بالخرائط والمال والأوراق الهامة والملابس، تحسباً لأي طارئ يضطرهم إلى إخلاء المكان في وقت قصير.

فقمنا بتكليف محمد يوسف رفيع، نائب الرئيس لهندسة البترول، برئاسة لجنة أوكل إليها فك تجميد منشآتنا الضخمة التي كانت معطلة منذ منتصف الثمانينيات، فواجه تنفيذ هذا المشروع الضخم والمعقد بعض التحديات نظراً لعدم كفاية اليد العاملة.  ومع أن معظم موظفينا الأساسيين قد بقوا معنا، إلا أني كنت مستاءً لرحيل كثير من الفنيين والخبراء ذوي الكفاءة العالية الذي كان وجودهم حيوياً لنجاح مساعي فك التجميد.

ولتلبية احتياجاتنا على المدى القصير، وجدت أن أفضل حل هو استعارة كفاءات من ملاك أرامكو السابقين لفترة من الوقت إلى أن نتمكن من إعادة مصانعنا إلى العمل.  فسافرت إلى الولايات المتحدة واجتمعت بالإدارة العليا للشركات الأربع كل على حدة.  فأبدوا اهتمامهم وقالوا بأنهم يتمنون المساعدة، لولا أنهم يعانون لأجل ملء وظائف مشابهة في شركاتهم نفسها، أي أنهم لم يكن لديهم أي فنيين احتياطيين.

أذكر كيف كنت جالساً في غرفتي بأحد فنادق لوس أنجلوس وأنا على وشك العودة، ينتابني اليأس ويعتريني الإحباط ذاته الذي أصابني عند بدء الاجتياح، حتى انتشلني صوت جرس الهاتف الموضوع بجوار سريري. أجبته فأتاني صوت رفيع، مسؤول إلغاء التجميد، ليرفع معنوياتي بأخبار سارة، إذ قــــال بحماســــة: “يمكنك العودة يا أبــا رامي، فقد حلت المسألة”. فسألته وأنا لا أكاد أصدق، كيف كان ذلك، فأجاب: ” وظفنا كل من أنهى ثلاث إلى أربع سمسترات دراسية في مراكز التدريب على الصيانة المتقدمة في أرامكو، وسلمناهم العمل”. لا أظن أني فخرت يوماً بفريق أرامكو السعودية كما فخرت ذلك اليوم، فقد أثبت أولئك الطلاب السعوديون، الذين كانوا بالمئات، بأنهم قد تلقوا تدريباً جيداً جداً، أهلهم لتعلم العمل بسرعة فائقة.  فقمنا بدمجهم بالفرق المتخصصة لإعادة تشغيل المنشآت الرئيسية.

وبنهاية ذلك العام، استطاعت تلك الفرق إعادة تشغيل 146 بئر نفط و 12 معملاً لفصل النفط عن الغاز في حقول الحرملية وخريص والغوار، فضلاً عن خط أنابيب معالجة المياه المالحة.  فارتفع إنتاجنا اليومي من 5,4 ملايين برميل في شهر يوليو إلى 8,4 ملايين يومياً بحلول شهر ديسمبر.

دقت طبول الحرب في الخامس عشر من يناير، ومع صباح يوم 17 يناير انهالت ضربات الحلفاء الجوية على المواقع العراقية.  وما هي إلا سويعات حتى جاء الرد العراقي بصواريخ سكود أطلقت باتجاه المملكة العربية السعودية وإسرائيل.  وبدا واضحاً استهداف منشآتنا في الظهران بشكل رئيسي.

شعرت تلك الأيام بأهمية دوري المتمثل في حث موظفي الشركة على التركيز في إنجاز عملهم خلال القصف.

أما في الحي السكني، فقد أصبح المزاج العام أكثر كآبة بعد أسبوع تقريباً من قصف الصواريخ.

بات النفط الذي غزا صدام من أجله الكويت واحداً من أهم أسلحته ضد الحلفاء خلال الحرب.  ففي غفلة من الجميع، سكب العراقيون عنداً كميات هائلة من النفط الكويتي الخام في مياه الخليج العربي.

شكل تسرب النفط كارثة بيئية في حد ذاته، إضافة إلى أنه هدد سلامة شعبنا، وكاد يؤدي بالمجهود الحربي كله.  فقد أوشكنا على إيقاف كل إنتاجنا للنفط الخام في البحر، كما كان من شأن تلك الكارثة أن تجبرنا على إغلاق محطات تحلية وتبريد مياه البحر التي كانت قيد الاستخدام المدني والعسكري على السواء.  وكانت محطة تحلية المياه في تناجيب ذات أهمية حيوية، ولا سيما أنها تزود قوات التحالف العسكرية بأربعمائة ألف جالون من المياه يومياً، إضافة إلى أنها المصدر الرئيسي للشرب في أرامكو السعودية.

أما أنا فقد عينت أحد كبار نواب الرئيس، عبد العزيز الحقيل، ناطقاً رسمياً لشؤون جهود الاحتواء والتنظيف.

فعقد مؤتمراً صحفياً في 27 يناير في فندق الظهران الدولي، الذي تقيم فيه معظم وسائل الإعلام الأجنبية، ليعلن أننا نتابع تطور الوضع عن كثب.  قال الحقيل في المؤتمر الصحافي: ” نحن على أتم الثقة بأننا سنتمكن من الخروج من هذه الأزمة من دون أن تتأثر قدرتنا على إنتاج النفط أو معالجته أو تصديره”. لم يقلل الحقيل من احتمال حدوث عواقب بيئية خطيرة، غير أنه أكد لوسائل الإعلام الحاضرة أن “المنشآت الصناعية الحيوية التي تستخدم مياه البحر لأغراض التبريد، أو كمصدر لتحلية المياه، قد تمت حمايتها جيداً وبالتالي لن تتأثر”.

وأذكر في هذا الشأن أن الوزير شام ناظر قد طلب في إحدى المرات إرسال بعض موظفينا لتقديم المشورة لقائد عمليات قوات التحالف الدولي الجنرال شوارزكوف، وذلك حول النقاط التي يتمكن أن تستهدفها طائراته لضرب بعض المصافي أو المواقع النفطية الكويتية لإيقاف تسرب النفط. فلم يتحمس الجنرال كثيراً في البداية حينما دخل عليه سعوديان من أرامكو، يرتديان الثوب السعودي، إلا أنه بعد دراسة الخرائط والاستماع إليهما، أخذ برأيهما فاستهدفت أهدافاً معينة أدت بالفعل إلى النتيجة المرجوة.

أزالت أرامكو السعودية زهاء 900 ألف برميل نفط من مياه الخليج بحلول مايو 1991 وبعدما قمنا بتحليته وتنظيفه من الشوائب، استطعنا في الواقع بيعه في السوق المفتوحة، وفي المقابل تعرض مليون برميل آخر بحسب التقديرات للتبخر.  ولا يعرف أحد حجم النفط الإجمالي الذي ضخه العراقيون في المياه، غير أن مجموعات دولية قدرت لاحقاً الكمية بأربعة ملايين برميل.

انعكست تلك المرحلة عليّ بدروس قيمة تعلمتها حول مسؤولياتي كرئيس تنفيذي للشركة . فنحن نتربع على عرش أحد أكبر احتياطات نفطية معروفة في العالم، وبالتالي فإن كل ما تقوم به أرامكو السعودية تحت قيادتي له أثر عالمي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وعد الشرقبداية التسعينيات

 

بينما كانت منطقة الخليج تغلي بالصراع، بدأنا نبحث عن فرص استثمار طويلة الأمد في قارة آسيا.

وكان لأرامكو السعودية بعض الخبرة مع مبيعات محدودة للنفط الخام في اليابان، وجمهورية كوريا، وتايلاند، وسنغافورة، والفلبين.

وهكذا أرسلت في عام 1989 اثنين من موظفينا إلى هناك في مهمة استكشافية.  وخلافاً للمستكشف الإيطالي الشهير ماركو بولو، الذي ارتبط اسمه إلى الأبد بطريق الحرير، أفاد الفريق المؤلف من أمريكي وسعودي بأن فرصنا في الصين أشبه بطريق دائري.  فقد وصفا البلاد على أنها مليئة بالدراجات الهوائية، المئات بل الآلاف منها.  فلم يعتقدا بأن تلك البلاد تعد بمستقبل كبير للسيارات أو بنمو كبير محتمل في الإنفاق الاستهلاكي. وللإنصاف، فإن الفريق أفاد بما رأى. إلا أن ذلك لم يبدُ صحيحاً، فأنا قارئ نهم، وفي كل شهر كان يصدر كتاب أو مقال في مجلة يتوقع أن الصين، التي نما اقتصادها بشكل كبير خلال ثمانينيات القرن المنصرم، ستكون سوق المستقبل.  ولا يشمل ذلك السيارات فحسب، بل كل شيء تقريباً، فسيصبح القرن الواحد والعشرون قرن أمريكا.  وهذا ما أخبرنا به أيضاً المستشارون التجاريون والاستراتيجيون فاتفقنا على إرسال فريق آخر، لكن هذه المرة أعضاؤه أنا ووزير البترول هشام ناظر. انطلقنا في جولة تجارية في آسيا خلال شتاء 1990 – 1989  القارس.  فذهبنا إلى أندونيسيا في زيارة وزارية رسمية، ثم مررنا بكوريا واليابان والصين. فاستقبلنا ممثلو وزارة التجارة والطاقة في كل من تلك البلدان بحرارة لا تنسجم مع برودة الجو التي بلغت 20 درجة مئوية تحت الصفر عندما كنا في كوريا.  والحقيقة أننا وجدنا إمكانيات كبيرة في أندونيسيا وكوريا واليابان، وتأكدت بما لا يدع مجالاً للشك أنها ستشكل محوراً مُهماً لنا ونحن نتوسع في آسيا.  ولكن ما إن وطأت أقدامنا أرض الصين، حتى رفعت الملامة على فريقنا الأول لما شاهدته بأم عيني.  فقد كان الطريق من مطار بكين إلى المدينة يعج بمساريه بمئات الدراجات الهوائية والعربات، وكانت كل المركبات تعمل على الفحم، مما أدى إلى ضباب دخاني رهيب، ولاسيما في فصل الشتاء. فأيهم بالله سيشتري نفطنا؟ وعندما عدت إلى المملكة، غيرت استراتيجيتنا في آسيا على مدى الأشهر القليلة التالية، فقررت عدم التأثر بانطباعاتنا الأولى عن الصين.

سنتابع أعمالنا هناك باعتبارها فرصة استثمار على المدى الطويل، بينما نركز حالياً على الدول الآسيوية التي بدت أكثر قدرة وحرصاً على عقد اتفاقيات، لأسباب تجارية وثقافية أيضاً.  كان احتمال الفشل وارداً بالطبع.

سئلت كثيراً: ” لماذا نتكبد عناء الدخول إلى آسيا؟ فالولايات المتحدة خيرٌ لنا”. ولا يُلام السائل في ذلك الوقت، فقد كانت النظرة السائدة إلى دول آسيا خلال التسعينيات أنها مجموعة من الدول الفقيرة المتخلفة التي تسودها حكومات فاسدة، أما أنا فقد رأيت فرصها وإمكانياتها.

كانت كوريا بديهياً هي خيارنا الأول كشريك آسيوي، فالكوريون يشترون النفط الخام من إيران منذ مطلع التسعينيات، لكن علاقاتهم التجارية شهدت توتراً لعدة أسباب كما قيل لنا.  فأعلنا عن توقيع اتفاق في 26 فبراير1990  لإنشاء شركة محاصصة لتكرير النفط في كوريا مع شركة سانغ يونغ ثالث أكبر شركة تكرير كورية.

كما شاركناهم هواياتهم أملاً في تقوية أواصر العلاقة، وتذليل سبل التفاهم، فقد سألتهم في أحد اجتماعاتهم عما يحبون عمله في أوقات فراغهم، وكم فرحت حين أجابوا بأنهم يحبون المشي مثلي.  فأسسنا نادياً للرحلات الطويلة، ساعدنا كثيراً على فهم الكوريين وعقليتهم، فتعرفنا على خصالهم ولمسنا صدقهم وأمانتهم.  ولا أبالغ إن قلت بأن لذلك النادي فضلاً في كسر بعض حواجز اللغة، فلم تفتق ألسنتهم بالعربية ولا لويت أحناكنا بالكورية، لكننا اتخذنا لغة غير محكية نتبادل فيه إجلال طبيعة كوريا الجميلة، فالصمت في حرم الجمال جمال، فتولدت بيننا رابطة قوية متينة.  فأصبحنا نخصص يوم الجمعة بأكمله لاجتماعات اللجنة التنفيذية، ثم نذهب أيام السبت للمشي سوياً.  فأتناوب أنا ورئيس مجلس الإدارة  )الدكتور س. و.لي( على قيادة المجموعة، إذ كنا نكبر معظم المدراء التنفيذيين السعوديين والكوريين بعشر سنوات أو خمس عشرة سنة، وكنا كذلك أكثرهم لياقة، فضلاً عن تعمدنا سن نهج القيادة للآخرين.

ازدادت علاقتنا التجارية  والشخصية متانة مع الكوريين على مر السنين.  واليوم نحن أكبر مورد للنفط الخام في كوريا، إذ قمنا في السنوات الأخيرة ببيع أكثر من 820 ألف برميل من الخام السعودي يومياً، بما في ذلك نصف مليون برميل يومياً لشركة )إس أويل(.

وعلاوة على أن منحتني جامعة سيول الوطنية شهادة فخرية، فإن الكوريين قد رموني مؤخراً بأسلوب غير تقليدي. فبعد قيامنا في عام 2014  في الاستحواذ على حصة مسيطرة في مجمع تكرير أولسان، قمت بزيارة المنشآت بناء على دعوة الحكومة الكورية.  فوجدت نفسي أسير في طريق يحمل اسم  )ع.إ النعيمي(  في وسط أبراج التقطير الشاهقة ووحدات التكثيف، مما فاجأني وأبهجني معاً.  فأنا فخور بالدور الذي قمت به لتوثيق عرى الصداقة بين البلدين، كما أني متأكد من أن الأجيال القادمة من السعوديين والكوريين ستواصل تعاونها في مشاريع ناجحة أخرى.

في عام 1992 ، طلبنا أنا ونائب الرئيس التنفيذي ناصر العجمي، من ضيف الله العتيبي، وهو أحد كبار نواب الرئيس، بأن، يتولى رئاسة شركة فيلا العالمية.

ففي ذلك الوقت، كانت فيلا تمالك ثماني ناقلات عملاقة، وأربع ناقلات يمكن أن تبلغ حمولتها مليوني برميل من النفط.

حققت فيلا العالمية سجل سلامة وكفاءة أصبح مضرب مثل في هذا المضمار.  بعد ذلك انتقلت ملكية فيلا العالمية لشركة الملاحة الوطنية السعودية المعروفة باسم  )بحري( في عام 2012 ، واحتفظت أرامكو السعودية بحصة صغيرة منها، فقد كان الهدف إنشاء شركة شحن وطنية ضخمة.

وفي دروب الشرق يجمع بين اليابان والمملكة العربية السعودية تاريخ من العلاقات يمتد ستة عقود، تخللتها مجالات الطاقة والأعمال التجارية والثقافية.  فوقعت شركة النفط العربية المملوكة لليابان اتفاقية امتياز مع الحكومة السعودية عام 1957 ، ومع الكويت عام 1858   وانتهى الامتياز في ظروف غريبة إلى حد ما عندما أصبحت وزيراً.

بدأت محادثاتنا بشكل ممتاز، أو هكذا ظننت.  فقد اجتمعت بكبار المسؤولين اليابانيين، ثم سألتهم في نهاية الاجتماع ما إذا كنا قد اتفقنا، فابتسموا جميعاً وقالوا )نعم(عندئذ هرعت إلى وزير الطاقة الياباني لأزف له الخبر، فقلت له :)لقد وافق الجميع)”. فرفع أحد حاجبيه مستغرباً وسألني: ” هل أعطوك موافقة خطية؟

فأجبته بالنفي، لكني أكدت له بأن ذلك لن يستعصى علي، وإن غداً لناظره قريب.  وفي اليوم التالي، قابلت المسؤولين أنفسهم وطلبت منهم التوقيع على اتفاقية تشمل المسائل التي ناقشناها بالأمس، فردوا علي بابتسامة أكبر من سابقتها، وإيماءات تقطر أدباً وذوقاً، لكن دون أن يمهر أحد الاتفاقية بتوقيع.  فعلى الرغم من قصر المسافة الفاصلة بين اليابان وكوريا، التي لا تتجاوز 200 كلم، إلا أني صعقت باختلاف أسلوب التفاوض بينهما.  إذ اكتشفت بأن اليابانيين حين يقولون لك نعم أثناء المفاوضات، فهم يقصدون  )سمعتك(!.

ولا يخلو الأمر في نظري من تجافي النفوس، فالأرواح جنود مجندة. ولقد لمست في المسؤولين اليابانيين عناداً غير عادي أثناء المحادثات، ولا سيما كبير المفاوضين.

أخذ شعور الإحباط يتنامى بسبب نقاشنا العقيم، حتى طرأت لي فكرة رائعة، وهي أن أحضر إلى الاجتماع التالي طالباً سعودياً يدرس في اليابان.  وقعت على طالب كانت لغته اليابانية ممتازة، إلا أني لم أطلب منه الحديث، بل مجرد الجلوس في الخلف والإصغاء.  وقلت له أن لا يحفل بالجالسين على الطاولة أمامي، بل يلقي سمعه على من هم خلفهم.  وهكذا تبين بأنه حين يقول نظراؤنا)نعم(، فإن الجالسين خلفهم يقولون )مستحيل(في أغسطس من عام 1993 طاوين عامين من مفاوضات ذهبت سدى.  وللأمانة فقد وصلتني لاحقاً رسالة اعتذار من )تاكوشي(  قال فيها إنه يشعر كما لو أن نيبوم أويل تركت أرامكو من الدخول في زواج فاشل”.

الشراكات والمصالح المتبادلة لم تكن هي الدافع الوحيد لعلاقتنا مع اليابان.  ففي أعقاب الزلزال المدمر الذي وقع شرق اليابان في عام 2011، قدمت المملكة العربية السعودية للسلطات اليابانية من خلال أرامكو السعودية دعماً بقيمة 20 مليون دولار على شكل إمدادات حيوية من الغاز الطبيعي المسال.  وفي واقع الأمر، لا نملك إلا رفع تحية احترام للشجاعة التي أظهرها الشعب الياباني في مواجهة تلك الكارثة الطبيعية الهائلة.

لم يكن لديهم خيار فهم يعلمون أني لا أقبل بالرفض.  إن الأمر أشبه بنقل الفحم إلى نيوكاسل ، رامياً بذلك إلى أن المشروع ضرب من العبث.

لاحظت خلال ثواني رحلاتي إلى الصين زيادة أعداد السيارات في الطرق، وغير ذلك من مؤشرات تسارع وتيرة النمو الاقتصادي.  فوقعنا في ذلك العام اتفاق التسويق الأول مع الصينيين، كما شرعنا في التفاوض للاستثمار في قطاع التكرير في البلاد، وذلك من خلال شركة محاصصة مقرها مدينة شينغداو، بهدف ضمان استمرارية إمدادات النفط في هذه السوق المهمة.  ولم أتوقع أن تمتد بي المفاوضات لخمسة عشر عاماً.

أتوا إلينا قائلين بأنهم يريدون مليونين برميل يومياً.

وفي أواخر التسعينيات، ستنمو وارداتها النفطية لتبلغ زهاء 6,2 مليون برميل يومياً، مما سيجعلها مسؤولة عن نسبة مذهلة تبلغ 37 بالمائة من مجموع الزيادة في استهلاك آسيا للنفط خلال ذلك العقد، وتعتبر آسيا مسؤولة إلى حد بعيد عن معظم الاستهلاك المتزايد للنفط في العالم خلال الحقبة نفسها.  ومع أننا فرحنا بفرصة التعامل مع الصين، يظل توفير مليونين برميل يومياً التزاماً جاداً، لم نحققه إلا قبل بضع سنوات.  وفي رأي أن السبب الذي جعل إتمام أول صفقة تكرير في الصين تستغرق كل هذا الوقت الطويل عائد إلى نظامهم البيروقراطي المرهق، الذي يبدو بأنه كان يشهد عملية إعادة هيكلة مستمرة، بما في ذلك دمج مختلف وكالات الطاقة لديهم.  فهم لم يتعاملوا معنا بأي عداء، ولكن هكذا تورد الإبل في الصين.  وبالإضافة إلى ذلك، لم أكد أقابل شخصاً مرتين، فقد كان كل من نتفق معهم يتبدلون باستمرار.

وأخيراً تكللت جهودنا بالنجاح في عام 2007 ففي 25 فبراير من ذلك العام، أقيم في قاعة الشعب الكبرى في بكين حفل كبير وقعت فيه شركتنا الصينية التابعة لأرامكو السعودية اتفاقاً رائداً مع شركائنا الصينين سينوبيك كورب، وحكومة مقاطعة فوجيان، وإكسون موبيل. وأطلقنا أول مشاريعنا الصينية الأجنبية المتكاملة التي تضمنت تكرير النفط الخام، وإنتاج البتروكيماويات، وتسويق الوقود والمواد الكيميائية. بدأ شركة فوجيان لتكرير البتروكيماويات المحدودة عملها في يونيو من ذلك العام وانطلقت شركة التسويق في الشهر التالي.

امتدت طريق الحرير الجديدة في كلا الاتجاهين بيننا وبين الصين فقد كانت أرامكو السعودية تبحث مؤخراً عن فرص استثمار استراتيجية في جنوب غرب الصين من شأنها دفع عجلة التنمية في تلك المنطقة وتأمين ، أسواق إضافية لمحطاتنا النفطية على المحيط الهندي.  وداخل المملكة العربية السعودية في عام 2015وبالتعاون مع شركة سينوبك، طلبنا أن ينشأ على شاطئ البحر الأحمر مجمع تكرير صديق للبيئة يعد الأكثر تقدماً في العالم.  فبعد البداية المتعثرة عام 1990 ، أصبحنا نزود آسيا اليوم بما يقرب من 70 بالمائة من جميع مبيعات النفط الخام فيها.

ارتفعت طاقة التكرير المحلية في أرامكو السعودية بشكل كبير عام 1993 مع إضافى سمارك  )شركة التسويق والتكرير السعودية(.  فقد تأسست في عام 1988 كذراع التكرير المحلي لبترومين، وتم ضمها إلى أرامكو السعودية بموجب مرسوم ملكي.

تلقيت في عام 1993 اتصالاً من الرياض أبلغت فيه بأن الملك فهد رحمه الله يستدعيني.  فهببت ملبي، وأنا لا أدري لماذا تبادر إلى ذهني بأنه يرغب في الاطمئنان ما إذا كانت أرامكو السعودية تؤمن ما يكفي من المساجد في منشآتنا لكي يؤدي الموظفون صلواتهم، فضلاً عن حالة المساجد نفسها. وافترضت بأن أحد الأشخاص قد اشتكى له ربما من ذلك، فأمرت بإجراء كشف سريع وتوثقت من مواقع كل مساجدنا، واصفاً حالتها في تقرير مدعم بالصور.  دخلت القصر الملكي في الرياض في السابعة إلا عشر دقائق مساء.  وحين أوشك الليل على الانتصاف، رأيت الرئيس الراحل ياسر عرفات يدخل إلى القصر.  فقلت في نفسي: “إن كان الملك سيجتمع مع الزعيم الفلسطيني الليلة فهو بالتأكيد لن يجد وقتاً لي”. وقرابة الواحدة والربع بعد منتصف الليل، قيل لي بأن الملك في انتظاري. فدخلت قاعة الاستقبال، ووجدته جالساً على كرسيه دون غترة أو بشت. اقتربت منه وقبلت رأسه احتراماً ا كما هي عاداتنا، ثم تصافحنا. أشار إلى كرسي إلى جانبه قائلاً : ” تفضل يا علي”. كنت قد تدربت مع نفسي على الإدلاء بإفادات حول حالة مساجدنا ومواقعها، اعتماداً على الطريقة التي سيستهل بها الملك الحديث.  لكني اكتشفت أني لم يطلني من حمل الملف سوى تعب ساعدي، فقد أدار الملك دفة الحديث نحو السياسة النفطية وقضايا أُخرى ذات صلة.

كان رحمه الله معروفاً بتصميمه وقدرته على التحمل.  تكلمنا لثلاث ساعات، ولم نتطرق لموضوع المساجد على الإطلاق.  وفي معرض الحديث عرج الملك على سمارك، مبدياً عدم رضاه عن أدائها.  غير أني حرصت كل الحرص على ألا أنتقد أداء الوزير، كما تجنبت التعليق على منظمة أوبك عندما انتحى الحديث ذلك المنحى، إذ تبين لي بأن الملك يختبر ردود أفعالي.  فصارت تحوم إجاباتي حول “أني أدير شركة للوطن” ولا أزيد على هذا فأجاب: ” أجل نحن نعلم أنك تقوم بعمل عظيم” فغادرت القصر بعد الرابعة فجراً وأنا في حيرة، ثم عدت بالطائرة إلى الظهران، لاستحم وأتوجه إلى العمل.

لأني كنت قد قررت في عام 1993 التقاعد عند بلوغي الستين. فبعث برسالتي للوزير هشام ناظر عام 1993أطلب فيها الإذن بالتقاعد بعد عامين، فأرسل الرسالة بدوره إلى الملك فهد رحمه الله، الذي رفض طلبي دون أي تفسير.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أسماك صاحب المعاليأواخر التسعينيات

 

سافرت إلى أنكوراج في ألاسكا، ومنها على متن طائرة صغيرة إلى مدينة كينغ سلمون جنوب غرب أنكوراج، على الطريق المؤدية إلى جزر ألوشيان.  وبينما كنت في المطار الصغير، ارتفع عبر سماعات المطار صوت النداء: ” يرجى من السيد علي النعيمي الاتصال بالرقم التالي”، واتبع ذلك رقم هاتف في جدة، فتجاهلت الأمر موقناً بأن أمور العمل تطاردني بين المطارات.

وفي صبيحة اليوم التالي، دخل إلينا رجل وسأل عني بينما كنت أتناول فطوري.  قال لي إن أحدهم يرغب في التحدث إلى وإن الأمر يبدو ضرورياً وعاجلاً.  هنا ساورني القلق، فإن كان ثمة ما يستدعى إرسال رسول ليطلبني في هذا المكان النائي، فلا بد أنه أمر جلل.  قضيت الوقت في التفكير وأنا على متن الطائرة المائية المتوجهة إلى أقرب مركز هاتف فاتصلت بالرقم فور وصولي، وكان رقم الشيخ إبراهيم العنقري المستشار بالديوان الملكي.  سألته : “ماذا تريد مني يا شيخ إبراهيم؟ أنا في ألاسكا أحاول صيد سمك السلمون”.

فأجابني : “لقد عينت وزيراً للبترول والثروة المعدنية، فعد رجاءً إلى المملكة يوم الأربعاء إذ سيعلن الخبر”. كنا في يوم الاثنين حين فاجأني الشيخ إبراهيم بهذا النبأ، فسألته ما إذا كنت أملك خياراً في الأمر، فأجابني بالنفي. لذلك فعلت ما سيفعله أي شخص في مكاني عند سماع خبر كهذا.

وللمرة الأولى يحتل منصب البترول السعودي مسؤول تنفيذي سابق في شركة نفط.  وكما ذكرت آنفاً في مقدمة الكتاب، أني أجيب على من يسألني عن سر نجاحي بأنه يعود بعد توفيق الله للعمل الشاق، وبعض الحظ، وثقة المسؤولين.

من سيصبح الرئيس التنفيذي القادم. كان المرشحون الأربعة هم نبيل البسام )الشؤون المالية(، سداد الحسيني )التنقيب والتطوير(، عبد العزيز الحقيل )العلاقات الصناعية(، وعبد الله جمعة  )العمليات الدولية. كنت أعرفهم جيداً لأني كنت المسؤول عن تدريبهم وترقيتهم واحداً واحداً، فكنت الأخبر بقدراتهم، وبكيفية تعاملهم مع الآخرين، وكيفية تصرفهم تحت الضغط.  فجلست ودونت على ورق صفات كل منهم، ووزنت نقاط قوته وضعفه، ووصلت أخيراً إلى قرار.  وعلى الرغم من الدراسة الوافية التي قمت بها لأصل للمرشح الذي أطمئن إليه، وأثق – بعد الثقة في الله – في أنه الأجدر بتولي مهام المنصب، كان قراري صادماً للكثيرين بمن فيهم الرجل نفسه، فقد وقع اختياري على عبد الله جمعة.  ولا ألوم كل من استغرب بل حتى من امتعض أو اعترض، فحين تضع على هرم أكبر شركة نفط في العالم رجلاً ليس بمهندس، ولا جيولوجي، ولا فيزيائي، بل من يحمل شهادة في العلوم السياسية، وفي وقت الفراغ شاعر تجاوز بميوله كتب الأدب إلى التاريخ.

لقد اخترت عبد الله جمعة لأنه كان يسمو عن الغرق في تشابكات قطاع أو تفاصيل فرع بعينه، بل آمنت بأن رؤيته الاستشرافية ستتيح له أخذ زمام قيادة الشركة، واتخاذ القرارات باعتبار الصالح العام لأرامكو السعودية.  كما كان كذلك شخصاً اجتماعياً بطبيعته، وهبه الله ملكة التحفيز واستخراج أفضل ما يمكن أن يقوم به موظفوه بل حتى زملاؤه التنفيذيون من أداء.

فقد صدر الأمر بتكليف عبد الله جمعة رئيساً تنفيذياً بالإنابة. إلا أن تلك الخطوة برأيي منحته الوقت ليثبت نفسه، ولا سيما أن بعض المسؤولين في الحكومة قد ألحوا عليّ بأن أرشح اسمين اثنين، لكني رفضت تماماً، فقد أردت أن ينأى تعيين رئيس أرامكو السعودية عن أي عامل غير عامل الجدارة.

وافق المقام السامي على تعيين عبد الله جمعة رئيساً تنفيذياً لأرامكو السعودية في شهر ديسمبر من ذلك العام.

ولأني كنت الوزير، لم أتدخل في كيفية إدارة عبد الله جمعة للشركة بالطريقة التي يريد.  فحين ينوي ترقية موظف إلى أحد المناصب العليا، كان يُراجعني فقط للتأكد من أني مرتاح للخيار، إلا أني لم أُمل عليه يوماً أي قرارات.

أشار الملك فهد رحمه الله في أحد لقاءاتنا الأولى إلى أنه يريد إحاطة أكبر بشؤون سياستنا النفطية، كما كان يفعله معه الوزير هشام ناظر.

شاء أن لا يتم أول اجتماع لي بالملك بعد أشهر من تعييني لمناقشة السياسة النفطية، إذ أصيب الملك بجلطة دماغية، كلف على إثرها ولي عهده الأمين آنذاك عبد الله بن عبد العزيز – رحمه الله – ، لتولي شؤون البلاد نيابة عنه حتى يتعافى مما ألم به.  فاجتمعت بسمو الأمير عبد الله عدة مرات خلال سنوات، فوجدته رجلاً يقظاً لبقاً، وفي الوقت نفسه ذا قلب طيب حنون. فتوطدت بيننا علاقة عمل وثيقة خلال فترة وزارتي، ووجدته، على غير أسلوب الملك فهد رحمه الله، لا يحبذ الغوص في تفاصيل السياسة النفطية، إلا أنه ظل على اطلاع بكل ما يدور في قطاع النفط.

قال لي رحمه الله في بداية عملي معه جملة لا أنساها ما حييت، قال : ” يا علي، لا تخش أي مسؤول، لا تخش إلا الله”.

حضرت أول اجتماع مجموعة أوبك عام 1995 ، وكان مقرراً في العاشرة صباحاً، فوصلت إلى قاعة الاجتماعات قبل الموعد بخمس دقائق، واندهشت حين كنت أول الواصلين، إذ لم يصل الوزير التالي إلا في الحادية عشرة، أما الباقون فتوافدوا بحلول الظهيرة. لم يرقني الأمر، فحين جاء دوري في الحديث كانت أول جملة أنطق بها: ” في الاجتماعات المقبلة، حين نقرر اجتماعاً في العاشرة، علينا المجيء عند العاشرة”. فحضر الجميع إلى الاجتماع التالي في الوقت المحدد، وإن لم يعجبهم ذلك.  وفي الحقيقة أن مشاكل أوبك تتعدى مسألة احترام المواعيد.  فبسبب افتقار المجموعة إلى التركيز والانضباط، فقدت احترام كثيرين حول العالم.

ويصرح عبد الله العطية، وزير الطاقة والصناعة السابق في قطر في هذا السياق: ” كنا نمضي الأسابيع في اجتماعات أوبك في جنيف دون فعل شيء يذكر سوى التسوق وممارسة بعض الرياضات الشتوية.  أما أن يلتزم الجميع بحصص تصدير النفط المتفق عليها، فلا كان الجميع يغشون”.

صممت على تغيير واقع أوبك بصفتي ممثل أكبر منتج للنفط في المنظمة، والدولة صاحبة أحد أكبر احتياطات نفطية مؤكدة، فأردت أن تعيد المنظمة توجيه بوصلتها نحو النفط لا السياسة.  ولكن هذا الموقف لم يجد أُذناً واعية لا أمس ولا اليوم.

فخلال عام 1997 ، أصبحت فنزويلا تجاهر بإخلالها بالحصص المحددة في ذلك الوقت.  فقد كانت صنابيرها مفتوحة بلا حسيب ولا رقيب، وتنتج بمعدل 6,3 مليون برميل تقريباً في اليوم، في حين يفترض أن يقل إنتاجها عن 3 ملايين برميل.

وزير الطاقة الفنزويلي )إروين آرييتا(  في أحد الاجتماعات، وقلت له : “اسمع!  ها نحن في أوبك نتجاوز السقف الذي اتفقنا عليه بسبب رعونة تصرفاتكم.  فإن كنتم ترغبون في الاستمرار على هذا النحو، أقترح أن نسمح بهذه الزيادة لبقية الأعضاء”.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من قلب الصحراء- 1995 – 1998

 

بينما كنا نكافح انهيار سعر النفط العالمي خلال عامي 1997 و 1998  واجهتنا بعض التحديات الكبرى في الوطن.  كان أولها بمثابة اختبار كبير حقيقي للشركة وللوطن.  لقد كان مشروعاً طموحاً من شأنه اختبار البراعة الفنية لأرامكو السعودية وموظفيها وقوة إدارته وإرادتها، لقد كان حقل الشيبة.  كثير من لا يعرفون حقل الشيبة، فهو يقع في جنوب شرق البلاد في صحراء الربع الخالي، التي لها من اسمها كل نصيب، فهي أكبر صحراء رملية في العالم إذ تبلغ مساحتها 650 ألف كلم 2 ، وتشكل عجيبة من عجائب خلق الله.

قد تتجاوز الحرارة 50 درجة مئوية نهاراً، وقد تهبط إلى الصفر ليلاً، ويصل ارتفاع الكثبان الرملية الشاسعة التي تميز منطقة الشيبة في الربع الخالي إلى 300 متر.

مهما يكن، لم نخش التنقيب عن النفط هناك.  فقد أجرى جيولوجيو الشركة مسحاً على أطراف الربع الخالي منذ عام 1983 لكننا لم نعثر على النفط في البئر رقم (1) في الشيبة إلا عام 1968 ومع مرور الوقت عرفنا بأن حقل الشيبة يبلغ طولاً 64 كلم وعرضاً 13 كلم تقريباً، وهو واقع في الجزء الشمالي الشرقي من الربع الخالي قرب حدودنا مع دولة الإمارات العربية المتحدة.  ويحتوي ذلك الحقل على كميات هائلة من النفط تتجاوز 14 مليار برميل.

عندما عينت مديراً للإنتاج في المنطقة الشمالية في عام 1974 ، كنا قد حفرنا 50 بئراً استكشافية في الشيبة.  وفي مطلع عام 1995 ، قبيل أن أتولى وزارة البترول، فتحنا ملف المشروع مرة أخرى.  كانت تقنيات الحفر والتصوير في تحسن مستمر.  أضف إلى ذلك أنه نمى إلى علمي بأن، بعض شركات النفط الأجنبية فاتحت الحكومة السعودية، ممثلة بالوزير هشام ناظر، بشأن تطوير حقل الشيبة.  فقد تحدث معه ممثلون عن شركتي شيل أويل وموبيل أويل، كل على حدة وقالوا : : ” لديكم حقل نفط ممتاز في الشيبة، ولا نعتقد أن أرامكو قادرة على تطويره، فهم يواصلون رفض الفكرة.  أما نحن فنستطيع تطويره من أجلكم.  سيستغرق المشروع خمس سنوات وستبلغ كلفته 5 مليارات دولار”. كان قلقي يتزايد كلما فكرت في المسألة، فلم يقتصر الأمر على شركتي شيل وموبيل.  إذ قرأت أن توتال الفرنسية قد ناقشت مبادلة أصول أرامكو السعودية، ولا سيما الشيبة، بأصول التكرير والمعالجة الأخرى.   وظهر لاحقاً في الصحافة أن المقربين من الرئيس فرانسوا ميتران كانوا على قناعة بأن الملك فهد، أو بعض من حوله، وعدوا بالموافقة على صفقة كهذه مقابل مشاركة فرنسا في حرب الخليج.  أظن أنه كان سوء فهم من الجانب الفرنسي لكلمات الثناء والتأييد من قبل زعيم عربي فاعتبرت مقايضة في ظنهم، لكني لم أكن طرفاً في المحادثات على أية حال.

لولا تدخل شركة النفط الفرنسية الأخرى  )إلف أكيتين( ، التي أدمجت لاحقاً في توتال، مسببة تعقد المفاوضات، لربما خسرنا حقل الشيبة.

لم تكن الشركات الأجنبية التي تهدد مصالحنا الوطنية وحدها ما يشغل بالي.  فما زلت محبطاً بسبب فشلنا في إبرام صفقة التكرير مع اليابانيين عام 1993 ، وستظل مصفاة شين – كوداماستو بالنسبة إلي، وأنا الصياد الماهر، بمثابة طريدة أفلتت من يدي.

كنت جالساً أمام عبد الله جمعة على طاولة الاجتماعات في اجتماع اللجنة الإدارية لأرامكو السعودية في 15 فبراير عام 1995 للتصويت على قضية تطوير حقل الشيبة مرة أخرى.  كان اجتماعاً طويلاً طرحت فيه ونوقشت كل الآراء المؤيدة والمعارضة بحججها وبراهينها. فأشرت إلى أنها مسألة عزة وكبرياء وطن أولاً، فلا يسعنا إرجاء المشروع أكثر من ذلك، وطرحت الأمر للتصويت.  أتت النتيجة بالإجماع لصالح توصية مجلس إدارة

أرامكو السعودية بتطوير الحقل، فتناولت قطعة من الورق وكتبت رسالة إلى عبد الله جمعة قلت فيها: “الشيبة عندي بمقام كوداماتسو”.

كلفنا نظمي النصر بإدارة فريق عمل الشيبة –  ينتمي نظمي إلى جيل أرامكو الثالث- فقد تزاملنا أنا ووالده في الشركة، وترقينا معاً خلال سنوات العمل.  وفي اليوم الذي حصل فيه نظمي على بكالوريوس الهندسة الكيمائية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن عام 1978 ، أتى من مبنى الحرم الجامعي المجاور مباشرة إلى مكتب التوظيف بأرامكو.  بدأ نظمي كمهندس في يونيو من ذلك العام، فعمل في مشروع شبكة إمدادات الغاز الرئيسية، فضلاً عن مشاريع الإنتاج والتكرير وخطوط الأنابيب في داخل المملكة وخارجها، فترقى إلى مدير عام 1993 حين كان مقر عمله في أبقيق، متولياً بذلك طيفاً واسعاً من المهام التي أعدته للخطوة المهنية التالية التي ستغير حياته، حيث أردته أن يتولى تطوير حقل الشيبة.  منح نظمي أسبوعان لتقديم عرض عن المشروع للجنة الإدارية في مارس 1995 ، فأدى العرض كما يجب . ثم اطلع على المقترحات الأربعة السابقة عن الشيبة، والتي تشير إلى أن كلفة المشروع ستتراوح بين خمسة وستة مليارات دولار، وسيستغرق إنجازه ما بين خمس أو ست سنوات.  فاقترح فريق عمله خفض كلفة بناء الشيبة إلى ما دون أربع مليارات دولار، من خلال تسريع بعض خطوات المشروع وإلغاء أخرى.  وسيصبح العام 2000 هو العام المستهدف لإتمام بناء المنشآت. قلت له بأن العرض كان رائعاً، ولكن علينا اتمام المشروع قبل مطلع القرن الحادي والعشرين.

ناقشت اللجنة الإدارية التفاصيل والجداول الزمنية بحضور نظمي النصر، واستقر الرأي على أن ينجز المشروع في أواسط عام 1999  كان نظمي مستعداً للالتزام بذلك التاريخ.

أردت إتمام مشروع الشيبة قبل عام كامل من الوقت المحدد وبكلفة أقل بكثير.  فقام الفريق بمراجعة كل مراحل الخطة، ووضع كل البدائل المتاحة، حتى جاء باقتراح جريء.  سيتم التسليم في أواسط 1998 ، أي في غضون ثلاث سنوات، وبكلفة تبلغ 2,5 مليار دولار فقط.

أما عبد الله جمعة، فكان هو المسؤول عن المتابعة والضغط بصفته الرئيس التنفيذي لأرامكو السعودية.  وقد قال مازحاً ذات مرة إن تطوير حقل الشيبة كان رابع المستحيلات، أما أنا فآثرت أن أقصر دوري على التحفيز.

أجبر موقع الشيبة النائي وبيئتها القاسية فريقنا على ابتكار حلول غير مسبوقة.  فقد كان بإمكان الطائرات الصغيرة إيصال فريق عمل من المهندسين خلال ساعات إلى الموقع، ولكنها وسيلة غير عملية لنقل عشرات الآلاف الأطنان من المعدات والمواد إلى الموقع، ولم يكن في وسعنا انتظار شق الطريق الدائم إلى الموقع، فينما كان العمل جارياً عليه، استخدمنا شاحنات المقاولين لنقل المواد لثلثي المسافة إلى الشيبة على الطرق المتاحة.  ثم نقلت الحمولة إلى شاحنات أرامكو السعودية المخصصة لأعماق الصحراء، والمصممة تحديداً للعمل على الطرق الشديدة الوعورة.

افتتحنا مهبطاً كبيراً يستوعب طائرة بوينغ 737 ، تألفت منشأة المعالجة المركزية في الشيبة من ثلاث معامل لفصل الغاز عن النفط، ومعمل لضغط الغاز، وعدد من محطات المرافق العامة، بما في ذلك معملان لتحلية المياه وتوليد الطاقة الكهربائية.  وتم بناء مساكن تتسع لألف موظف. فكان أعضاء الطاقم الأولي المؤلف من 750 عاملاً يعملون وفق مناوبات من 12 ساعة، ويستمتعون في وقت فراغهم بوسائل الراحة المختلفة.

وبحسب الخطط ، يجب علينا ضخ 500 ألف برميل يومياً من النفط الخام ” الخفيف جداً”  الذي عثر عليه في الشيبة.  ولكي ننقل النفط من الشيبة إلى معامل المعالجة في أبقيق، قمنا بمد خط أنابيب فوق الأرض بطول 645  كيلومتراً، وقطر يبلغ 120 سنتيمتراً .

ثم سينقل نفط الشيبة من أبقيق عبر شبكات الأنابيب القائمة إلى محطات التصدير في رأس تنورة أو الجمعية على الخليج العربي.

وكان هدفنا استخراج النفط من الآبار الأُفقية بأعلى كفاءة لكن دون سحب المياه من تحت النفط، أو حتى الغاز من فوقه.  فبلغ معدل إنتاج أربع آبار اختبار أفقية 12 ألف برميل يومياً – أي ما يعادل خمسة إلى ستة أضعاف إنتاج الآبار العمودية التي قمت باختبارها قبل عشرين سنة – تماشياً مع توقعاتنا.

خلال أول مرحلة إنتاج في عام 1998 ، قمنا بحفر ما يزيد على مائة بئر إنتاج أفقية تحت الكثبان الرملية المحيطة.

وبعد ثلاث سنوات من بدء تنفيذ المشروع، أي بعد ثلاثة عقود من اكتشاف النفط في الشيبة، افتتحت المنشأة في شهر يوليو من عام 1998 لبدء الإنتاج في الموعد المحدد.  واستطاع فريق الشيبة تخطي كل التوقعات إذ أنجز المشروع بكلفة لم تتجاوز 7,1 مليار دولار، فوفر 800 مليون دولار في الميزانية.

لم يكن لهذا الأداء المذهل والدقيق ولا التقنيات الرائدة التي استخدمت أن تجعل من حلم الشيبة واقعاً ملموساً لولا عامل فاق أهميته كل العوامل الأخرى، ألا وهو العمل الجماعي السعودي.  فللمرة الأولى خلال تنفيذ المشاريع الكبرى، كان 90 بالمائة من أعضاء الفريق المسؤول عن مشروع الشيبة سعوديين، وهذا ما ستصفه أرامكو السعودية بفخر بأنه )قمة السعودة(.

قدم لي عبد الله جمعة لوحة تذكارية لالتزامي بمشروع الشيبة، تضمنت الورقة التي ناولته إياها في فبراير 1995  وقلت فيها “الشيبة عندي بمقام كوداماتسو”، وهي مازالت إلى اليوم معلقة على جدار مكتبي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أعط الخبز خبازه

)فصول مبادرة الغاز) 1998 – 2003

 

كان الزمن كفيلاً بمسح عرق أواخر التسعينيات عن جبين الشركة والبلاد، فمن يصدق أن تنهار أسعار النفط بعد عامين فقط من تعييني وزيراً للبترول عام 1995 ، فصرت أذرع الأرض في مساع دبلوماسية كبيرة بغية التوصل إلى اتفاق بشأن خفض الإنتاج فضلاً عن الانشغال بعدد من القضايا المتعلقة بالسياسة الداخلية.  من ذلك استغلال ثرواتنا المعدنية فيما أصبح يعرف بشركة التعدين العربية السعودية )معادن(.

فقد كنت مرافقاً لسمو ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز وسمو وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل  )رحمهما الله(  إلى الولايات المتحدة في خريف عام 1998 في ذلك اليوم تحديداً، قصدنا منزل سفير خادم الحرمين لدى الولايات المتحدة، سمو الأمير بندر بن سلطان، في ماكلين بفيرجينيا.  وعندما دخلنا، فوجئت برؤية رؤساء أكبر سبع شركات نفط أمريكية وأوروبية ينتظروننا في الصالة الفسيحة.

شرع الأمير عبد الله في استطلاع مدى اهتمام المدراء التنفيذيين في الحصول على فرص الاستثمار في مجال التنقيب واستخراج النفط والغاز من باطن الأرض في المملكة.

سألني سمو الأمير بندر كيف نستطيع استخدام النفط لتوطيد العلاقات الأمريكية السعودية.  فاقترحت عليه التحدث إلى بيتر بيجور من شركة تكساكو، الذي قال بدوره إن أفضل ما يمكن للمملكة القيام به هو الانفتاح.

عندئذ طلب مني الأمير بندر كتابة تقرير قصير حول إيجابيات هذا الأمر وسلبياته، فشددت كثيراً على أن فتح المجال للشركات البترولية الكبرى المعروفة دولياً للاستثمار والحصول على موطئ قدم لها في المملكة سيجعل أرامكو أكثر قدرة على المنافسة.  فكان التقرير إيجابياً بشكل عام، وكان هذا آخر عهدي بالأمر.

انتابني قلق وبلغ مني مبلغاً ، إذ لم أكن مغيباً فحسب عن هذا التغير الكبير في التوجه الاستراتيجي، بل كانت الإشارات واضحة بأن أرامكو السعودية غير مؤهلة لمهمة تطوير موارد البلاد الهيدروكربونية بمفردها، أو على الأقل أن تأخذ زمام المبادرة في تنميتها.

فقد تحركت المبادرة ببطء، حيث كان لكل من وزارة الخارجية ووزارة البترول فريقان يعملان على المشروع ، دون تنسيق مشترك، علماً بأن علاقتي بسمو الأمير سعود الفيصل رحمه الله، الذي وافته المنية عام 2015 كانت ودية وقائمة على قدر كبير من الاحترام المتبادل.  لكن كلا الفريقين سعياً إلى تولي زمام الأمر، مما أعاق الفكرة وأعثر تقدمها مراراً. فقد كان المشروع برمته جلياً لي، وأعلم أن أرامكو السعودية قادرة على تطوير مواردها الخاصة بها، دون حاجة لا شركات أمريكية ولا غيرها. فالأمر كما هو أمر اقتصادي، هو كذلك أمر يمس عزة الوطن وكرامته. فلماذا نمنح إدارة ثروتنا وحقولنا النفطية لشركات أجنبية، فيكسب مساهموها من ورائنا المال ولا حاجة لنا بهم!.

في عام 2001 ، استدعت أرامكو السعودية من الفلبين المهندس خالد الفالح، لقيادة فريقنا التفاوضي، الذي كان قد أرسل إلى مانيلا قبل أقل من عام ليكون رئيس شركة المحاصصة بين أرامكو والجانب الفلبيني في مصفاة بترون.  وقامت الشركة بترقيته إلى منصب نائب رئيس أرامكو لأعمال الغاز، نظراً لمهارته القيادية وصياغته لأول استراتيجية غاز للمملكة.  ثم قمنا بعد ذلك بدراسة مفصلة لخرائط مواردنا الطبيعية في جميع أنحاء المملكة، واستعنا في الزيارة التي قمنا بها أنا وعبد الله جمعة لولي العهد في مكة المكرمة لنطلعه على أفكارنا.  كان من المقرر أن يحضر الاجتماع سمو الأمير سعود الفيصل، لكنه لم يتمكن لسبب ما. فعرضت الخارطة على ولي العهد مشيراً إلى الموارد التي نملكها وإلى مواقعها، وحين تطرق الحديث إلى السماح للشركات الدولية بالتنقيب عن احتياطات جديدة، أكدت على أهمية اقتصار نشاطها على المناطق غير المعروفة لدينا، وأن يقتصر نشاطهم على الغاز دون النفط.  ففهم ولي العهد وغمز بعينه نحونا قائلاً : ” لا تقلقا”.

واتفقنا أيضاً على أن أي استثمار من جانب تلك الشركات يجب ربطه بتطوير البنية التحتية الحيوية، فالمملكة بأمس الحاجة لها.  تلك قسمة عادلة!

أعلنت المملكة عن مبادرة الغاز في شهر مايو عام 2001 ، وقمنا باختيار ثماني شركات للمشاركة في ثلاثة مشاريع أساسية بلغ إجمالي ثمنها 25 مليار دولار.  ومع أننا واجهنا بعض التذمر من عدد من الشركات عندما أخرجنا النفط من المعادلة.

استأجرت شركات النفط الدولية معظم المساحة التجارية في برج الفيصلية الشهير في الرياض، وجعلت منه قاعدة لعملياتها.  فكنت أجتمع بالفالح مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع للاطلاع على المستجدات.  ومع أن تلك الفترة كانت حافلة بالضغوط على الفالح، إلا أنها شكلت تجربة جديدة له.

خلال شهور المبادرة الأولى، كنت الوزير الوحيد الذي يغرد خارج السرب، محاولاً رد مطالب شركات النفط الجشعة.  فقد ساورني شعور بأن لي ريموند يحاول استغلال علاقته بسمو الأمير سعود الفيصل إلى أقصى حد للحصول على أفضل صفقة ممكنة لشركة إكسون موبيل. وسواء كانت تلك نيته أم لا، فقد كان الهدف تحييدي وجعلي أبدو وكأني أدافع عن مصالح أرامكو السعودية لا السعودية.  فصرت ضحية كثير من الانتقادات في وسائل الإعلام، كما نلت نصيبي من التشكيك في قراراتي ودوافعي، من قبل أصحاب المصالح الشخصية الذين تكاتفوا ضدي.  ولكن بمرور الوقت، عرف المسؤولون في الدولة وعلى رأسهم سمو ولي العهد بأني كنت أعمل لصالح الوطن وليس الشركة فحسب.  وفي الواقع، لو أن مفهوم المشاريع الأساسية سار على النحو المقترح في البداية، لشكل ذلك سابقة لا تحمد عواقبها، واستنزف أموالاً طائلة من المملكة.

فما طالبت به شركات النفط العالمية تضمّن إعفاءً من الضرائب والرسوم، فضلاً عن عائد مضمون يقارب 20 بالمائة.  فكان تلك أهم نقاط اختلافنا معهم، فتفاوضنا على شروط تنافسية مع صفقات أخرى.  ولقد كنا على استعداد لمنحهم صفقة منصفة، لكن الطمع أعماهم.  قال خالد الفالح: “لم يكن الوزير النعيمي بموقفه الراسخ يدافع عن أرامكو السعودية وحدها، بل كان يحمي المملكة من استنزاف ثرواتها الوطنية في تلك الصفقات”. والحقيقة أنه لولا توفيق الله، ثم جهودنا بالنجاح، لخسرت المملكة خسائر جمة، وفقد حيزاً كبيراً من سيطرتها على مواردها الطبيعية، ولا أبالغ إن قلت مستقبلها.

تسارعت وتيرة المفاوضات بحلول ربيع عام 2003 ، فطلب مني سمو الأمير سعود الفيصل أن أجتمع أنا وفريقي مع لي ريموند في كاليفورنيا في محاولة لحل خلافاتنا.  وقد كنت واثقاً بأن أكسون موبيل وبقية شركات النفط يطمحان لدفع ثمن بخس مقابل امتلاك احتياطات لنا تعرف في عالم النفط بالمكثفات، وهي هيدروكربونات تتواجد عادة في مكمن جو في على شكل غاز ثم تتكثف لتتحول إلى سائل عند إخراجها إلى السطح.  وهذا النوع من الوقود خفيف جداً وقتيم جداً، فيبدو بخفة البنزين تقريباً.  وما أثار قلقي هو أن الفريق الأول، الذي تقوده وزارة الخارجية دون أي خبير في صناعة النفط، وصف المكثفات على أنه غاز، أو تركه خارج المفاوضات تماماً.  أما أنا فلا يمكن أن أقبل بذلك.  فقد كنت أعرف خفايا النفط كظهر يدي، وها قد آن الأوان لاتخاذ الموقف السليم. حين بلغت الأمور ذروتها في كاليفورنيا، أطلعت لي ريموند على وجهات نظري وصارحته بشعور ساورني بأنه يجور في محاولته التكسب دون وجه حق.  فرد على التهمة بالمثل، فاحتد النقاش قليلاً.  ومنذ تلك اللحظة، انتهت مفاوضاتنا ولم أر لي ريموند بعد ذلك الحين، ويا للأسف فقد كنا صديقين فيما مضى، لكني لا أخلط الأوراق.

أخذ الإحباط يتسلل إلى نفوس أعضاء الفريق، فقد مرت سنوات ولم نتمكن من حل تلك المسألة التي أراد ولي العهد إنجازها بشدة.  والله يشهد بأننا لم يحل بيننا وبين المضي في الصفقة إلا رفضنا قبول ما وجدناه جوراً بحق بلادنا، أما زملاؤنا فريق وزارة الخارجية، فقد واصلوا مساعيهم الترويجية للمضي قدماً في تحقيق المشاريع الأساسية الثلاثة بأي شكل كان.

عندها لجأ ولي العهد إلى صديق ومستشار قديم، هو الوزير الدبلوماسي والأديب الشاعر غازي بن عبد الرحمن القصيبي رحمه الله. أخذ الأمير رأيه في الموضوع، فأجابه القصيبي: ” أعط الخبز خبازه.  هذا مشروع يتعلق بالنفط والغاز، ولديكم وزير بترول.  نصيحتي هي تفويضه بالمسؤولية كاملة وتركه يتخذ القرار”.

وبعدما تم أمر مبادرة الغاز، اقتنعت الحكومة بأن أرامكو السعودية ووزارة البترول هما الأداتان الرئيسيتان لتطوير مواردنا الهيدروكربونية. فمنحنا ولي العهد دعماً غير مشروط، وقدر لنا دورنا في إبقاء تنمية الموارد السعودية الأساسية في يد السعوديين.  كسبنا معركة، ولكن هل انتصرنا في الحرب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الألفية الثالثةسنة 2000 وما بعدها

 

هبت نسمات القرن الحادي والعشرين بهدوء، لا نعلم بأنه يسبق العاصفة.  فمع انتهاء حرب الخليج والأزمة المالية الآسيوية، رحنا نتطلع إلى مستقبل أكثر إشراقاً.  فقد استقرت أسعار النفط وكان الاقتصاد السعودي ينهض على أُسس متينة.  وشهدت المملكة فائضاً في الميزانية للمرة الأولى منذ سنين، على الرغم من الزيادة الكبيرة في الإنفاق، وستفيض خلال السنوات المقبلة.  إلا أن ارتفاع أسعار النفط أقلق الدول المستهلكة، فقد بلغ سعر برميل النفط 30 دولاراً، أي ثلاثة أضعاف ما كان عليه عام 1998فحضر وزير الطاقة الأمريكي )بيل ريتشاردسون( إلى الرياض في خريف عام 2000 لمناقشة أسعار النفط، وقال بأن أمريكا تفكر في السحب من احتياطها النفطي الاستراتيجي لمواجهة ارتفاع أسعار وقود التدفئة في شمال شرق الولايات المتحدة.  فقلت له إني آمل ألا تخطو الولايات المتحدة هذه الخطوة، لأنها ستترك أثراً مدمراً على أسعار النفط العالمية.

أوقعتنا الاختلافات الثقافية في سوء فهم مع عدة وفود عالمية خلال مفاوضاتنا تلك الفترة.  ففي العام 2000 ، كانت شركة النفط العربية المحدودة المملوكة لليابان تعيد التفاوض على امتياز التنقيب المستمر منذ أربعين عاماً في الجزء السعودي من المنطقة المحايدة بين السعودية والكويت، ولقد كانت وتيرة المفاوضات متقطعة لبضع سنوات، ثم بلغت ذروتها في فبراير 2000 لأن مدة الامتياز انتهت في الثامن والعشرين من ذلك الشهر.  ومع أن البلدين عملا معاً على عدة مشاريع سابقة، إلا أننا لم نفلح في الاتفاق بشأن هذه الصفقة.  وكل ما في الأمر أني طلبت منهم دفع مليار دولار مقابل الحصول على الامتياز، وذلك من أجل تمويل مشروع تطوير سكة حديد الشمال لتصبح العمود الفقري لصناعة الفوسفات التي كنا نخطط لتطويرها.

غير أنهم ارتابوا في نواياي، ومن المؤسف للجميع أن تضيع المفاوضات هدراً، وتقع ضحية سوء الفهم الثقافي.

ثم جاء 11 سبتمبر حاملاً معه أنباء الفاجعة.  فقد اصطدمت طائرتان ببرجي مركز التجارة العالمي في مانهاتن، بينما تحطمت الثالثة بمبني البنتاغون . فأدركنا أن عالمنا يعد كما عرفناه.  كان أول رد فعل قمت به هو الإيعاز لرئيس أرامكو التنفيذي بأننا يجب أن نستعد تماماً للتعامل مع أي خلل قد يطرأ على أسواق الطاقة العالمية.

وفي الواقع، حدث تذبذب في أسعار النفط والغاز أعلى من المعدل.

وبعد ارتفاع أولي في أسعار النفط عقب الهجمات الإرهابية.  فما كاد شهر نوفمبر من عام 2001 يطل حتى هبط تداول برميل النفط الخام لسعر يقل عن 20 دولاراً.  عندها وافق أعضاء أوبك على خفض إنتاجنا من أجل دعم الأسعار.

جدد تعييني في الوزارة عام 2003 فترة ثالثة تمتد لأربع سنوات، فحان الوقت للنظر إلى ما بعد الأزمات الطارئة التي كانت أمواجها تتوالى على مدى السنوات السابقة.

في خضم جولاتنا الجيوسياسية تلك خيم الحزن على المملكة العربية السعودية إثر وفاة الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله في 1 أغسطس 2005، تسارعت وتيرة التغيير بالأسابيع والأيام، فقد ضرب إعصار كاترينا وريتا ساحل خليج الولايات المتحدة وتسببا بتعطيل عمليات الإنتاج والتكرير في عدة مواقع، مما خلق حاجة ملحة إلى زيادة الطاقة العالمية لإنتاج النفط الخام في أواخر صيف ذلك العام.  فارتفعت أسعار النفط ارتفاعاً حاداً لتبلغ 70 دولاراً تقريباً للبرميل في أعقاب العواصف.  وبلغت أسعار البنزين في بعض أجزاء الولايات المتحدة 4 دولارات للجالون.  حينها حضر وزير الطاقة الأمريكي الجديد )سام بودمان(  إلى المملكة في أواخر عام 2005 لإلقاء نظرة على منشآتنا، ولفهم خططنا التوسعية على نحو أفضل.  فرافقته شخصياً في جولة على عدة منشآت، بما فيها حقل الشيبة، خلال أيام زيارته الثلاثة، ودعوته إلى عشاء في منزلي في الظهران ، التقى فيه بعدد من المسؤولين في أرامكو السعودية.  فكنت بذلك أرد له حسن ضيافته لي في مايو  2005 عندما زرت الولايات المتحدة.

ساهمت زيارة بودمان في وضع حد للمخاوف التي سادت في بعض الأوساط في واشنطن، خشية ألا نتمكن من تلبية الطلب العالمي على النفط في السنوات المقبلة.  لكن كما قال لصحيفة نيويورك تايمز بعد عودته إلى واشنطن : “لقد أبهرت بالقدرة، والكفاءة والحماسة السائدة.  وعدت وأنا على أتم الثقة بأنهم سينفذون ما وعدوا به”.  أصبح سام بودمان بعد ذلك من أعز أصدقائي، فقد كان واحداً من قليل من وزراء الطاقة الذين صادفتهم ووجدتهم بالفعل يفهمون الصناعة من وجهة نظر فنية وعملية. لم تكن مشاريعنا الضخمة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بيت الحكمة – 2006 – 2008

 

لم يكد يمر عام على تولي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز مقاليد الحكم، حتى شرع في تحقيق حلم راوده منذ ثلاثين عاماً.  كانت رؤيته الطموحة تتمثل في بناء جامعة للدراسات العليا في المملكة على طراز عالمي، تعيد أمجاد العصر الذهبي للعلم في الإسلام، وذلك من خلال استقطاب أمهر الباحثين وأذكى الطلاب من جميع أرجاء العالم، للعمل والدراسة والعيش جنباً إلى جنب مع أكثر الطلاب السعوديين موهبة وتميزاً. وسرعان ما سأصبح جزء من تلك الرؤية بأن أمنح شرف قيادة إحدى أكثر التجارب التي خضتها أهمية وإثارة.

طرح الموضوع في اجتماع عقد في الرياض، لكن بطء وتيرة اللجان لم يرض خادم الحرمين الشريفين.

فاقترحت عليه أن نسلم زمام الأمور لأرامكو السعودية، فلأرامكو خبرة في المشاريع الكبرى كما أن أسوارها تحتضن بعض ألمع العقول في البلاد، فأجاب : “أنا موافق”.

تأسيس جامعة عالمية! جعلتني هذه الجملة أتصل فوراً بعبد الله جمعة، الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية.  أجابني من جنيف عبر هاتفه المحمول، إذ غادر للتو اجتماعاً للجنة التنفيذية لأرامكو السعودية. قلت له إني أعرض عليه وظيفة جديدة، فالملك يريد أن تبني أرامكو جامعة.  فتسمر مكانه!

قال لي إن اجتماعه قبل قليل دار حول مدى انشغال أرامكو بكل المشاريع الجارية، ومعظمها يهدف إلى بلوغ الإنتاج 12,5 مليون برميل يومياً.

فأجابني : ” سيكون ذلك صعباً علينا للغاية، لكننا سنعيد ترتيب أولوياتنا وننفذ المشروع”. كنت واثقاً بأني لن أسمع غير هذا الجواب من عبد الله، فقد مثل روح التحدي في أرامكو التي أعول عليها لرؤية هذا المشروع حقيقة قائمة.

كانت عملية التخطيط جارية منذ مايو.  فتم إعداد مقترح مبدئي على يد أربعة من كبار المسؤولين الحكوميين من ذوي الخبرة في الأبحاث. وكان الموقع الفسيح الذي اختاره الملك عبارة عن أرض جدبا تقع على مسافة 90 كلم شمال مدينة جدة، بالقرب من قرية الصيد الصغيرة )ثول( امتد موقع الحرم الجامعي على مساحة 16,4 كيلومتراً مربعاً من الأرض، أي ما يوازي حجم بلدة صغيرة، 19,6 كيلومتراً مربعاً من الشاطئ.

أراد الملك أن يبدأ العمل فوراً وأن يتم الانتهاء منه في أقرب وقت ممكن.  فقاد الفريق الأولى المهندس نظمي النصر، الذي عيناه رئيساً مؤقتاً للجامعة، وذلك إلى حد كبير بسبب نجاحه في مشروع الشيبة الضخم الذي أتيت على ذكره آنفاً.

التقينا بعد أيام في مكتبي في الظهران، وكنت قد تحدثت مع خادم الحرمين الشريفين.  قلت لهما بأن أرامكو السعودية لن تكون مسؤولة فحسب عن بناء الحرم الأكاديمي والمساكن المحيطة به وغيرها من المرافق، بل هي مكلفة أيضاً بالتخطيط الأكاديمي.  وأضفت : ” ما من أحد غيركم يا رفاق. البناء أصغر همومنا، وليس بمشكلة، فنحن نعلم أننا قادرون على ذلك.  لكننا مسؤولون عن تأدية دور أكاديميين”. يذكر ذلك نظمي النصر بقوله: ” فوجئنا بذلك تماماً، فقد عرفنا أن هذا المشروع لا يشبــــه الأعمال التـــــــي اعتدنـــــا عليها، بل لا يشبــــــه شيئاً نفذ حتى الآن”. تواصلنا مع مجموعات استشارية كان لها أثر كبير في نجاحنا، فانطلقنا بسرعة الضوء، لنتم بعد ثلاث سنوات بناء ما سيعرف باسم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية  )كاوست(.

ساعدتنا في تصميم الهيكل الأكاديمي مجموعة واشنطن الاستشارية، وهي عبارة عن ناد لرؤساء الجامعات الفخريين الذين رغبوا عن التقاعد.  وساعدنا معهد ستانفورد للبحوث الدولية على تحديد محور أبحاثنا، في حين قام مهندسو شركة هيلموث أوباتا كاساباوم بوضع الخطة الرئيسة للمبنى الذي سيقام على ساحل البحر الأحمر.  ومن بين قادة مجموعة واشنطن الاستشارية رجلان أديا دوراً رئيسياً في تطوير الجامعة وتقديم المشورة لها، هما د. فرانك رودس، الرئيس السابق لجامعة كورنيل، وهو أديب على درجة عالية من التقدير، ود.  فرانك بريس، الرئيس السابق للأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة والمستشار العلمي للرئيس جيمي كارتر.

قال لنا بعض الأكاديميين الذين التقينا بهم: ” إما أنكم فقدتم عقولكم وإما أنكم تجهلون ما ينطوي عليه مشروع كهذا”. وأقول بأن الجهل نعمة في بعض الأحيان.

وافق كثير الجامعات التي زرناها، بما في ذلك جامعة ستانفورد، وجامعة كاليفورنيا بيركلي، وجامعة تكساس في أوستن، وجامعة كامبردج وإمبريال كوليج في لندن على الدخول فوراً في شراكات معنا لتطوير مناهجنا الدراسية وجلب الأساتذة الناشطين بحثياً في المجالات المختارة.

ولا أبالغ إن قلت بأن جامعة الملك عبد الله، بوظائف مرافقها المختلفة والمواد التي استعملت في بنائها هي أكثر تعقيداً من بعض منشآت المعالجة النفطية العملاقة التي كانت تبنيها أرامكو في أماكن أخرى من المملكة. بلغت التكلفة زهاء 1,5 مليار دولار، بما في ذلك الأجهزة العلمية في المختبرات المتطورة التي تضمها الجامعة. إضافة إلى أسرع الحواسيب العملاقة في الشرق الأوسط. كما تم تأمين إقامة عشرات آلاف . العمال في الموقع خلال ذروة أعمال البناء في عام .2008

كنا ندرك بأننا بحاجة إلى تمويل أكبر، لكني آثرت أن تملك الجامعة، مثل أكبر وأعرق الجامعات في العالم، مصدر تمويل خاصاً بها يكون عبارة عن وديعة مالية مرصودة تستثمر في مجالات ربحية.  فراجعنا سريعاً جامعات الأبحاث للتوصل إلى رقم معين ذهبت به إلى الملك وقلت له بأننا نحتاج إلى 10 مليارات دولار لتمويل الجامعة.  فأجاب: “هذا مبلغ كبير يا علي”.

طلبت من الملك أن يأمر أرامكو بإيداع 10 مليارات دولار في حساب الجامعة من عائدات النفط الخام، فوافق الملك.  وظننت بأن الأمر تم على خير.  إلا أن مستشارينا عادوا وقالوا بأن المبلغ كوديعة استثمارية لا يكفي، فنحن بحاجة إلى 17,5 مليار دولار لتغطية تكاليف تشغيل الجامعة كما تصورناها.  فعدت إلى الملك طالباً  10مليارات أخرى تحسباً لما قد يطرأ لاحقاً.  فأجاب: “علي هذا كثير جداً”. فشرحت له بأن هذا سيحمي الجامعة ويضمن استمرارها ودخلها الخاص.  فأخذ أسبوعين للتفكير في الأمر، فعدت وقلت: ” أنا جاهز للتنفيذ، لكني أحتاج إلى هذه المليارات العشرة”. عندئذ هز رأسه وقال: ” كم أنت لحوح”، أمر بها فحصلنا على 10 مليارات اضافية وديعة للجامعة وتديرها شركة استثمارية مستقلة.

وفي يناير من عام 2008 ، قدمت الجامعة أول دفعة من المنح الدراسية لـــ 178 طالباً وطالبة متميزين في الدراسات العليا في مجالي الهندسة والتقنية من جامعات في مختلف أنحاء العالم.  وتم اختيار أولئك الطلاب بناء على عدد من المعايير الصارمة، من بينهم ما يربو على ثمانين طالباً من المملكة فشكلوا جوهر أول دفعة من 400 طالب سيدخلون الجامعة في سبتمبر 2008 ، ويعملون بشكل وثيق مع 75 عضو هيئة تدريس لبناء مستقبل أفضل.

ترددت بعض الأسر السعودية في السماح لبناتها بالدراسة في جامعة مختلطة.  فتفهمنا ذلك، وأقمنا أياماً مفتوحة للطلاب وأسرهم . ومع مرور الوقت تفهموا من خلال زياراتهم أهداف جامعة الملك عبد الله والفرص التي تمنحها لبناتهم، فتحمس لها كثير منهم.  ويحرص اليوم كثير من أفضل الطلاب في بلادنا ذكوراً وإناثاً على الالتحاق بالجامعة.

وبالنسبة إليّ، فقد شكل ذلك تحدياً كبيراً استحق كل ذلك العناء.  كما قد ساهم كثير من الأشخاص، الذين يصعب ذكرهم جميعاً، في نجاح هذه المؤسسة واستمرار نجاحها بإذن الله.  غير أن عبد الله جمعة يستحق كثيراً من التقدير على قيادته، فهل من رئيس تنفيذي لشركة نفط غيره يتلقى عبر الهاتف طلباً لبناء جامعة، فيدرجه في جدول أعماله؟ لقد كان عبئاً كبيراً عليه وعلينا جميعاً، إلا أننا أتممنا العمل، وستشهد ثماره على جهودنا بإذن الله، فالتعليم هو أعظم هدية يتلقاها أي إنسان.

 

 

 

 

 

 

بين مد وجزر 2014- 2008 –

 

اتسمت جميع معاركنا السابقة بمحاولة دفع أسعار النفط إلى الارتفاع، ولكن منذ عام 2008 فصاعداً أخذنا نناضل لكبح جماحها. لم يقل ذلك صعوبة بل تطلب جهداً وتنسيقاً على صعيد عالمي.  ولقد دفعت أرامكو السعودية ثمن التزامها بتوفير طاقة إنتاجية فائضة لسوق النفط العالمية.  وما بدأ بإنفاق رأسمالي للمشاريع قيمته 50 مليار دولار عام 2005، تضخم ليبلغ 65 مليار دولار في مطلع 2008 ، مع إضافة مشاريع جديدة وتوسعة أخرى قائمة، فضلاً عن ارتفاع تكاليف البناء بسبب التضخم وندرة المواد.  كل هذا قبل إضافة كلفة بناء جامعة الملك عبد الله التي قدرت بعدة مليارات من الدولارات.  ورغم أن تلك المبالغ تعد مهولة في حد ذاتها، غير أنها مجرد جزء من ميزانية التنمية السعودية الضخمة البالغة 500 مليار دولار.

سعت الدولة إلى ترسيخ الصناعة البتروكيماوية في البلاد.  فكما أسست الشركة السعودية للصناعات الأساسية  )سابك( في عام 1976 لإنتاج بعض المواد البتروكيماوية الأساسية وغيرها، كان من الخطوات الكبيرة في هذا المجال تأسيس )بترورابغ( في عام 2005 ، وهي شركة محاصصة مع شركة سوميتومو كيميكال اليابانية.  كما وضع حجر الأساس عام 2011 لمشروع بتروكيماويات كبير آخر في الجبيل الصناعية، وسينتج عنه شركة محاصصة على مستوى عالمي بين أرامكو السعودية وشركة داو كيميكال، تحت اسم  )صدارة للكيماويات(  وذلك لإنتاج الإثيلين والبولي إيثيلين.

لم يكن لكل ذلك أن يتحقق لولا فضل الله ثم التصاعد المستمر لسعر النفط الخام.  ففي  3 مارس 2008  ، بلغت عقود النفط في بورصة نيويورك التجارية  )نايمكس( 103,95 دولارات للبرميل، وهو أعلى سعر سجل على الإطلاق، متجاوزاً بذلك الرقم القياسي الذي حققه في أبريل عام 1980  بتسعة عشر سنتاً، بعد تعديل السعر بحسب التضخم، ليعادل بذلك أربعة أضعاف متوسط السعر قبل بضع سنوات.  ولم يبدُ أن الأسعار ستشهد انخفاضاً قريباً.  فقد كنت استشرف الأفق من منصبي كوزير للبترول، فأشعر بأننا نعبر أرضاً مجهولة.  فقد أخذنا نسابق الزمن مع فورة الإنفاق الحكومي، لتعويض ما فاتنا من تنمية سببها انهيار أسعار النفط أواخر الثمانينيات والتسعينيات في ظل تزايد أعداد السكان المستمر.  وفي الوقت نفسه، كنا نأل تجنب الهدر الذي شهدته طفرة أواخر السبعينيات، لذلك ركزنا هذه المرة على الاستثمار في المستقبل.

في ديسمبر 2011 ، نشر المعهد الفكري البريطاني تشاتام هاوس تقريراً، جاء فيه:  تستهلك أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم كمية كبيرة من الطاقة في الداخل.

وبحسب تقديرات تشاتام هاوس، تستهلك المملكة نحو ربع النفط الذي تنتجه، وهي كمية لو بيعت لدرت عائدات ضخمة.  كما أننا نبيع النفط لتوليد الكهرباء وغيرها من المرافق العامة في المملكة بما لا يزيد كثيراً عن تكلفة الإنتاج وغيرها من المرافق العامة في المملكة بما لا يزيد كثيراً عن تكلفة الإنتاج.  وتستهلك وحدات تكييف الهواء المنخفضة الكفاءة وحدها ما يقارب 65 بالمائة من استهلاكنا للطاقة.  لكن كما أشار كبير الاقتصاديين في وكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول: ” إن استخدام النفط لتوليد الكهرباء أمر غير منطقي اقتصادياً، ما دمنا نستطيع الاستعاضة عنه بالغاز الطبيعي.  فالأمر أشبه باستخدام عطر شانيل كوقود لسيارتك”.

 

خلص تقرير تشاتام هاوس إلى أنه في حال استمرار الاستهلاك المحلي بلا حسيب ولا رقيب، ستستورد المملكة النفط بحلول سنة 2038 ، فمعدل استهلاك الفرد من الطاقة في المملكة يعادل ضعف المتوسط العالمي.  فدق التقرير ناقوس خطر، جاء متأخراً بعض الشيء.

في شهر مايو التالي، كشفت الحكومة عن خطة استراتيجية طموحة لتنويع مصادر الطاقة.  فخصصنا مليارات الدولارات للطاقة البديلة، جاءت على رأسها الطاقة الشمسية، طامحين إلى تغطية نحو ثلث احتياج البلاد .  المتوقع من الكهرباء بالطاقة الشمسية، ما يقارب 41 جيجا واط بحلول عام 2032.

وفي الواقع، أنا مؤمن بالطاقة الشمسية، وأتمنى استغلالها على نطاق واسع، فالمستقبل في رأيي يحتم ذلك.  أنا كما أسلفت أثق بالعلم وبالتقنية، والعلم يقول بأن المملكة تقع في بقعة مثالية.  ولدينا الشمس ويمكننا أن نصبح قوة عالمية في مجال الطاقة الشمسية.

سبق ووقعت أرامكو السعودية اتفاقيات مع الشركة السعودية للكهرباء لإنتاج 300 ميجاواط من الطاقة الشمسية في المناطق النائية من البلاد للحد من اعتمادها على وقود الديزل لتوليد الطاقة في منشآتها.

وفي عام 2010 عدنا للعمل على الموقع شمال الرياض، في مدينة العيينة، فقد بنت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية خط تجميع تجريبياً للألواح الشمسية هناك، وزيدت القدرة الإنتاجية في العام التالي إلى أربعة أضعاف.

ودعت الخطط المرسومة المملكة إلى بناء مصنع آخر للخلايا الشمسية ينافس أكبر المصانع الموجودة خارج الصين.  وإني مدرك تمام الإدراك بأن الطاقة الشمسية لن تغير وجه البلاد في غمضة عين، لكني سأسر فعلاً إن أخذ القطاع الخاص بزمام المبادرة في مجال إنتاج الطاقة الشمسية، والمتجددة عموماً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

والقافلة تسير  2014 –

 

جاء عام 2014 ، ليكسب أسواق النفط العالمية بعد آخر، ألا وهو “النفط الصخري”.  ومع أن هذا النفط يعتبر ظاهرة حديثة، إلا أن أبحاث الأوربيين منذ زمن بعيد قد وثقت وجوده.   فقد عرفت فرنسا إنتاج النفط الصخري بكميات تعتبر تجارية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، علماً بأنه نفط حبيس صخور شديد الكثافة.

وسرعان ما انتشرت طريقة إنتاج النفط الصخري في معظم أنحاء أوروبا، كما هاجرت أمريكا وكندا أواسط القرن التاسع عشر . ولكن مع الوقت، أدى إنتاج النفط الخام التقليدي، إلى إغلاق معظم منشآت النفط الصخري في أنحاء العالم.

إلا أن الحياة دبت فيه من جديد مع بداية العام 2009 ، إذ استقرت أسعار النفط نسبياً عند 100   دولار، فأصبح النفط الصخري مصدراً جذاباً للطاقة، فتكالب عليه منتجو النفط كبيرهم وصغيرهم، ولا سيما في الولايات المتحدة.  ولم نكن في غفلة عن ثورة النفط الصخري، ولم يخف علينا أو يقلقنا سعي البعض لتطوير مصادر أخرى للنفط المحكم. فالعثور على مصادر جديدة للنفط والغاز ضروري لتلبية احتياج العالم المتزايد من الطاقة ، ولا سيما في المستقبل.  وبحلول منتصف عام 2014 ، بدا للكل أن هذا النفط المرتفع التكلفة، أصبح لاعباً في معادلة السوق، إذ صار يزيد العرض أمام الطلب.

كانت أوبك، وغيرها كثير من المراقبين، بطيئة في تقدير سرعة تطور صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة.

النفط الصخري ازداد إنتاج الولايات المتحدة في 2012 بمقدار 850 ألف برميل يومياً، ثم 950   ألف برميل في عام 2013 ، تلي ذلك الطاقة الأمريكية.  وتشير تقديرات برايس ووترهاوس كوبرز إلى أن إنتاج النفط . الصخري العالمي قد يبلغ 14 مليون برميل يومياً بحلول عام2035.

فقد انخفض إنتاج النفط الليبي من 1,8 مليون برميل يومياً إلى 250 ألف برميل في أواخر 2013 ومطلع 2014 ، لذا فقد عوضت زيادة إنتاج النفط الصخري خسارة الإنتاج الليبي لحين من الزمن.  كما دفعنا إلى عدم ، التخوف من دخول النفط الصخري إلى السوق، التوقعات بتزايد الطلب ولا سيما في آسيا.  ولكن بحلول 2014أصبح واضحاً للعيان بأن الطلب على النفط الخام لن ينتعش كما كان متوقعاً.  فقد تذبذب الاستهلاك العالمي للنفط الخام ، لكنه لم يحقق تحركات ثابتة فوق مستوى 90- 92 مليون برميل يومياً.  ومما أثار استغراب عديد من الاقتصاديين والمستثمرين، تواضع النمو الاقتصادي الصيني أكثر من المتوقع.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خاتمة

 

قررت أن تتوقف هذه السيرة الذاتية في هذا الكتاب من مسيرتي المهنية في نوفمبر من العام 2014 وذلك لعدة أسباب ليس أقلها أن عليّ التوقف عند نقطة ماء، وقد توسمت في القرار التاريخي الذي توصلنا إليه في اجتماع أوبك في فيينا ذلك الشهر فرصة مواتية لأترجل عن صهوة عالم النفط.  فضلاً عن تغير الظروف قبيل انتهائي من العمل على هذه المذكرات وطباعتها في عام 2016 فقد توفي الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله عام 2015 ، وبويع الملك سلمان بن عبد العزيز ملكاً للبلاد، فأعاد هيكلة الحكومة بعد فترة وجيزة، فعين محلي بعد أن أمضيت واحداً وعشرين عاماً في الوزارة، المهندس خالد الفالح الرئيس التنفيذي السابق لأرامكو السعودية.  أتمنى لخالد كل التوفيق، فهو شخص موهوب ومتميز.  أما أنا فقد شرفني خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بتعييني مستشاراً في الديوان الملكي.

ويبدو الوقت مناسباً الآن لأتأمل في مسيرتي المهنية، واستعيد ذكرى التغيرات التي طرأت على صناعة النفط خلالها.  فلم يعد يخفى على قارئ هذا الكتاب أني قد انضممت إلى شركة أرامكو للعمل ساعياً في عام 1947 كان عالماً مختلفاً آنذاك، قطعت الشركة والشعب السعودي بعده شوطاً طويلاً.  فبعد فقر مدقع ساد أرجاء البلاد في الماضي أصبحت المملكة اليوم عضواً في مجموعة العشرين.

فعندما أصبحت وزيراً عام 1995 ، كان برميل النفط يتراوح بين 16 و 17  دولاراً، وهو سعر يقبل به المنتجون والمستهلكون على حد سواء.  ونتيجة لعوامل كثيرة، بما فيها الانهيار المالي الآسيوي، انهار السعر في وقت لاحق.  إلا أن المثابرة، والعمل الدؤوب، والدبلوماسية القائمة على التعاون، جعلت الدول المنتجة من داخل أوبك وخارجها تتكاتف لإعادة السعر إلى حد مقبول.

فنحن وإن تمادى بنا الجدل حول نسبة ارتفاع أو هبوط صغيرة، يظل العالم يطلب ويحصل على ما يزيد على 90 مليون برميل من النفط يومياً. وعلى المدى البعيد سيرتفع هذا الرقم، لذلك لست أخشى من قلة الطلب. وسيظل تذبذب الأسعار، وتأرجحها بين صعود وهبوط من أكبر التحديات في المستقبل.  فيتعين على الحكومات والصناعة إيجاد سبل للتعاون من أجل إعادة التوازن إليها.

أما عن مستقبل النفط، فأنا واثق بأنه باق في المستقبل المنظور.  فما ثمة مشكلة من النفط بحد ذاته، ولكن الخطورة في الانبعاثات الضارة التي تتصاعد من إحراق الفحم والنفط والغاز.  وليس من الحكمة أن تتخلى عن أعظم مصدر للطاقة في العالم وأكثرها اقتصادية، بل يتوجب علينا أن نعمل على تطوير تقنيات تقلل من الانبعاثات الضارة وتقضي عليها في نهاية المطاف.

أما أنا فأعتز بالدور الذي أديته خلال عملي في أرامكو السعودية، منذ كنت ساعياً فيها، إلى أن أمسكت بدفة قيادتها، وأفخر بالسنوات الإحدى والعشرين التي توليت فيها وزارة البترول والثروة المعدنية، ولكن لكل بداية نهاية.  ولست نادماً على شيء والحمد لله، بل أنا على استعداد لإعادة الكرة فقد عشت حياة شخصية ومهنية رائعة بكل المقاييس.  وعلى الرغم من بلوغي ثمانين حولاً، انقضت سبعة عقود منها في العمل بقطاع النفط، أظل أولاً وأخيراً مواطناً ينتمي إلى المستقبل ويحمل نظرة تفاؤلية، فمن يدري ماذا سيحمل لنا الغد؟

One comment

  1. هل تحتاج إلى قروض للمشاريع والاستثمارات والقروض الشخصية والقروض التجارية وقروض الرهن العقاري وقروض الطلاب وقروض التوحيد والقروض لمختلف المشاريع؟ بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في الحصول على قرض من شركتنا يجب عليك الاتصال بنا اليوم على العنوان التالي:
    markusgreyloanfirm@gmail.com

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.