واجب إعادة النظر في المصفوفة الفقهية!
الكويت من الدول العربية التي تعمل في الفضاء العام بموجب دستور حديث، ضمن للمواطن مساحة واسعة من الحقوق ورتبت عليه واجبات، ومن الدول والمجتمعات التي شاركت المواطنين بتوزيع عادل للثروة الوطنية، كما لديه مجلس نيابي منتخب ، تضمن قواعده الداخلية ان يناقش العضو بحرية ما يراه في الشأن العام، والمجتمع الكويتي في غالبيته مسلم، وككل بلاد المسلمين تكثر فيها الجوامع لأداء فرائض الإسلام، كما ان دستور الكويت من مرجعياته الأساسية العروبة والإسلام ، ومع ذلك يأتي احد الأشخاص في الأسابيع الماضية ليثير جدلا قديما جديدا هو تغير نص في الدستور الكويتي الى ان تكون المرجعية في التشريع كاملة للشريعة!. من حيث المبدأ لا اعتراض على ان يدلي عضو ما في مجلس الامة الكويتي بما يراه، اكان حقا او باطلا، فذلك تقديره وحكم زملاؤه على ما يعرض، ولكن المشكلة تكمن في قابلية الطرح المتعلق بالشريعة، أي كانت تفسيراتها، بجلب اخرين من المتعاطفين او المتخوفين من الاتهام في دينهم، والعياذ بالله، لمسايرة ذلك الاقتراح! وإدخال المجتمع في جزئية يتردد كثيرون من المساس بها لحساسيتها المفرطة.
و لكن بسبب تاريخ من الحريات في الكويت فان بعض القوى السياسية الكويتية، قد ناهضت ذلك التوجه علنا، وفي تقديري لن تتاح لمشروع الاقتراح حتى القبول للنقاش العام في المجلس المنتخب نفسه. ولكن وهي لكن كبيرة القضية ليست هنا، القضية الكبرى التي تهم المجتمع الكويتي كما تهم المجتمع العربي وربما المجتمع المسلم، هي ذلك المنحى من استخدام الدين في السياسة بمدخلات مختلفة ، وهو منحى عانت منه الكثير من المجتمعات العربية على امتداد قرن من الزمان تقريبا،و سوف تعاني منه في حال تجاهل مظاهره وعدم مناقشتها مناقشة علمية وعقلانية مستنيرة.
الفكرة الأساس التي يروج لها ذلك البعض (المستخدم للدين في السياسة) ان المجتمعات العربية تعاني من باثولوجيا اجتماعية، على راي المفكر الفرنسي دوركايم، وان معالجة تلك الامراض التي افرزت اضطرابا خطيرا في المجتمعات وأدت الى عذابات اجتماعية كبرى، أساسها (غياب تطبيق الشريعة)! تلك المقولة التي قد يستحسنها البعض هي خاطئة من أساسها، فالمشكلات التي تواجه شعوب إسلامية وعربية هي ناتجة من سياسات غير حصيفة اتخذت لقترة طويلة أساسها ( في نظري على الأقل ) غياب الحريات، وضعف المؤسسات، وما يتفرع من كل ذلك من سلبيات. الواقع ان الدين بمعناه العام و الإنساني، بعيدا عن الاستخدام السلبي، ان وجدنا المصفوفة الفقهية التي تعني بمقاصد الدين (أي دين) وقد استخدمت المصفوفات التفسيرية ذات التوجه السلبي للأديان في عصور مختلفة وفي اديان مختلفة ، لإشاعة الكراهية بين بني البشر، و اشعال الحروب والنزعات. القضية هنا ليست في المبادئ العامة للدين، ولكن في مصفوفة التفسير الديني، او ما نسميه في ثقافتنا الفقه، وهو تفسير للنصوص يقوم به بشر لخدمة مقاصد دنيوية كثير منها ضيق الأفق والفهم! خذ مثلا المصفوفة التي تنتقيها جماعة مثل داعش، هي تنتقى بعض النصوص و تخلعها من سياقها اللفظي والتاريخي، كي تسقطها بعشوائية على مظاهر اجتماعية سياسية في عصرنا الحاضر، لا يمكن لعاقل ان يدعى ان تلك النصوص غير موجودة، ولكن العقل يحتم القول ان تلك النصوص مجتزأه من سياقها، وتطلق طاقتها التدميرية بغير حسيب او رقيب على المجتمع، و تخلف ما نراه من قبح وفساد و قتل واستباحة، لا يصيب المجتمع العرابي الإسلامي فقط، بل يتعداه الى مجتمعات أخرى تسارع هي الى التعميم السلبي على المسلمين جميعا.
في المقابل هناك عشرات القوانين في بلاد عربية كثيرة، اكاد أقول كلها، مستندة على مبادئ الشريعة الإسلامية الإيجابية والعقلانية والتوائمية. ومن المعروف اليوم لدى المتخصصين ان كثيرا من قواعد النظام الفرنسي القانوني مستمدة من المبادئ المتسامحة لشريعة محمد صلعم ، وفي المقابل ان بلاد المسلمين والعرب ترتفع فيها المآذن و تقام فيها الممارسة الإسلامية باجتهاداتها الجزئية المختلفة. استخدام الدين في السياسة له العديد من المسببات، ربما المح ثلاثة أسباب رئيسية، الأولى هو نقص في إشاعة العدل، وهو عمل انساني ، يمكن ان يمارس حتى في بلاد ترفع شعارات تطبيق الشريعة، والثاني قادم من الجهل ،وهو الأخطر ، وهذا الجهل الذي اشيع ويشاع في مدراسنا ووسائلنا الإعلامية، وزاده عمقا وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة ،التي تتطاير منها النصائح المضللة و الأفكار السلبية القائمة أساس على الخرفات و الخزعبلات، اما الأكثر خطورة فهو التكسب السياسي الذي استخدم ولا زال يستخدم بعض الشعارات الدينية من اجل الحصول على مكاسب سياسية، وقد كان ناجحا في بعض فضائنا العربي، ولكنه نجح الى حين بوسيلة القمع والاكراه لا الاقناع ، اما القائم منه في بعض بلادنا العربية والإسلامية فقد ثبت بالتجربة والقطع فشله وتضليله، ولم يقدم للشعوب التي تسلط عليها الا القمع والفقر !
ما اردت ان اصل اليه هو اننا بحاجة الى مصفوفة فقهية تساير العصر، وتقدم حلولا عقلانية للمشكلات التي تواجه شعوبنا وتستجيب الى المطالب المستجدة ، الا ان اول الخطوات هو نقد موضوعي وعقلاني للمصفوفة السائدة اليوم من المتشددين، القادمة من افرازات الصراع في القرن العشرين ، قرن مقارعة الاستعمار ! و هم في نظري ليس من يحمل السلاح ويقطع الرقاب ويقتل الجنود ويروع الامنين، بل هم أيضا الدائرة الاوسع، الذين يُسمون اليوم انهم أكثرية في (وعاض الفضائيات والانترنت) و مستخدمي الشعارات لتضليل الناس! هؤلاء يبدؤون بإيهام الناس انهم ( لا يعيشو في مجتمع مسلم)! وان الإسلام هو فهمهُم فقط ولا مساحة لغيرهم . طبعا يجد مثل هؤلاء مستمعين بسبب ضغوط حياتية او سياسية او هجوم مذهبي من دول وجماعات أخرى، كل ذلك لا يعفينا من المطالبة بالمصفوفة العقلانية الفقهية الحديثة، التي توازن بين مطالب الدنيا والدين. لقد قام نفر من المفكرين العرب بمثل تلك المحاولات، الا انها كانت فردية ولم تكن مؤسسية، يحضرني العمل المؤسسي الذي تم في الكويت، وكان نتاج مجهودات عربية وانسانية واسعة، هو الموسوعة الفقهية الموحدة، التي أصدرتها وزارة الأوقاف الكويتية، وهي متاحة على الشبكة العنكبوتية العالمية، كما هي قد وزعت على العديد من المكتبات العربية والدولية، لا أقول انها عمل متكامل ولكن أرى انها أساس لا غنى عنه لبناء تلك المصفوفة الحضارية المطلوبة ، يرى البعض، وانا اخالفه، انه بمقدور الشعوب العربية المسلمة ان تستغني عن ذلك التراث ،وتدخل في ما يعرف ب( العلمانية الحديثة) أرى ان ذلك دعوة للانفصال عن القواعد الثابتة للثقافة العربية الإسلامية، الا ان التفكير في مصفوفة حضارية إسلامية تتوائم مع مطالب العصر من جهة، والجهر بمواقف نقدية واضحة لمن يريد التضليل في هذا المقام، عمليتان متكاملتان، ليس مناطا بتنشيطهما الافراد والنخب فقط ،ولكن الدولة العربية من خلال مؤسسات، لإنقاذ أنفسنا من هذه الحالة المرضية التي تكاد ان تأكل الأخضر واليابس َ