أوجاع بشارة
ليس اكثر من خبرة الاستاذ عبد الله بشارة في كواليس مجلس التعاون ، كان اول امين عام للمجلس واطول مدة قضاها امينا عاما استمرت اثنا عشر سنة مزدهرة ، عاصر المؤسسين والذي كان آخرهم السلطان قابوس الذي غادر دنيانا اول هذا العام رحمه الله ولحق بالمؤسسين جميعا ، وضع بشارة معظم الاسس أللجان والادارات التي بنيت قواعدها وقت ذاك على اسس متينة من العمل والامل واستمرت الى اليوم . إختزن بشارة خبرة واسعة و فهم معنى ان تكون خليجيا على ارض الواقع وليس على الورق، ولما انتهى من ذلك العمل الرسمي لم يغادر غيرته على هذا الكيان و تتبع تطورات ما يحدث فيه بحلوه و مره واكبه ولا يزال عضوا فاعلا في مجموعة المساندة الكويتية التي انشات على مستوى دول الخليج من اجل تقديم المشورة و المتابعة . اوجاع بشارة من نزاعات الخليج حقيقية، فرؤيتة واقترابه من الموضوع لا تكمن في كونه رأس الامانة العامة وخبر عن قرب آمال المؤسسين ولا تكمن كونه لسنوات ملازم لاطول تاريخ رجل في وزارة خارجية عربية هو الشيخ صباح الاحمد ، فقد لازمه في حله وترحاله وفي كل لقاءاته الاقليمية والدولية وكتب محاضر جلساته الرسمية التي انتجت اليوم ثروة معرفية في عدد من كتب بشارة ، وشهد الصراعات العربية من جانب ومن ثم التوافقات الهشة من جانب اخر ، ولكن ايضا بجانب كل ذلك فهو رجل انسان و مثقف من الطراز الاول وقارئ فطن وكاتب له اسلوب أخاذ في السرد، وقد نشر عددا من الكتب حملت خبرته وازمات وطنة جلها تستحق التنويه وبعضها واجب ان يدرس لطلاب الجامعات. اوجاع بشارة انه خير من يعرف ان المنطقة مهددة وان البعض يكابر في عدم اخذ التهديد بعين الجدية . في آخر لقائين حضرتهما في الكويت شارك فيهما عبد الله يشارة ، وجدت ان مداخلاتة حول الوضع الاستراتيجي في الخليج تحمل الم دفين وحسرة بادية وأسف وتامل في الفرص الضائعة وخوف حقيقي على هذا الكيان الذي سوف يدخل عقده الرابع قريبا ، ويصف بشارة واقع الخليج على انه يدخل منخفض ( الجوار العاصف). فهناك تحديات كبرى في المنطقة والجوار لا يلتفت اليها كثير من متخذي القرار الخليجي وقد شُغل بعضهم في الممارسة اليومية بالثانوي دون التفات الي الرئيسي ، رغم ان القرب من العاصفة يهدد الكيان الخليجي وتنذر بعواقب وخيمة ، فقد طالت الخلافات بين الدوحة وثلاث عواصم عربية في الخليج و اخذت تستنزف الطاقة الخليجية و الوطنية استنزافا جعل من التدخل الخارجي من قوى اقليمية يسهُل اكثر مما كان في السابق ، وفي نفس الوقت تتغير مواقف القوى الدولية من المنطقة تغيرا مشاهدا وغير مسبوق، وهو تغير هيكلي في الغالب وسُوف يَستمر، بصرف النظر عن الاشخاص في قيادة تلك العواصم ، فان جمعنا الاثنان معا ( تغير استراتيجي من الخارج الى الداخل وضعف في اللحمة الداخلية) وجدنا ان هذا الاقليم الخليجي الذي ظل ممانعا للاختراق في فترة عصيبة سابقة، تضعف مناعته ويعرض بعض اعضائه الى التاكل ان لم يكن الظاهر فهو بالتاكيد في الداخل الخلفي الذي سرعان ما سوف يظهر على السطح . يتذكر بشارة تلك الايام والسنوات الاولى التي كان فيها اعمال واجتماعات المجلس مثمرة و صريحة و واقعية في مواجهة الازمات ، وكيف شيد هذا الكيان لبنات بنائه حجرا فوق حجر في مؤسسات وكيانات تنسيقية مختلفة في التعليم والصحة و العسكرية و الاجتماعية وعدد آخر من الهيئات واللجان الدائمة في وسط حاضنة شعبية مرحبة ، معظمها الان متوقف عن العمل او غير منتج وان كان لازال قائما . تتصاعد خيبة الامل عند بشارة عندما يلمس البعد الاجتماعي ، فقد ذهب الخلاف حتى باللحمة الاجتماعية المتشابكة، فقطعت اوصال المجتمع المتداخل و المتاخي ، بل ودخل البعض على ملف الخلاف شاهرا سيف الكراهية الشديدة و التنابذ بالالقاب التي هي ليست من اصل قاموس المجتمع الخليجي المتسامح ظنا من هؤلاء انهم يتصيدوا في الماء العكر ويتزلقوا الى محرمات باختراع تاريخ غير تاريخ هذه المنطقة المتداخل و المتعاون على مر سنين طويلة تفيض عن عدد من القرون. من الواضح أن أوجاع بشارة غير المكتومة مصدرها انه لا يرى في الافق القريب انفراجا مع قدوم غيوم الاضطراب التي تسير بسرعة عاجلا نحو المنطقة ،ومع ان هذه الغيوم التي سوف تمطر السموم لن تستثني احدا ، فان الحيرة ان يفكر البعض انها سوف تستثنيه، هي بالطبع لن تفعل ذلك ابدا . فحدود التماس مع عوامل الاضطراب تقترب و الاخطار تسعى الى الخليح دون ان يسعى لها ،وتزداد درجة الابتزاز المالي و السياسي لتصل الى حد الوقاحة ، كما يتغير نمط التفكير في الكثير من العواصم الغربية تجاه المنطقة عن السابق ،والتغير ليس في الاشخاص ، كما يعتقد المتعجل بل وفي السياسات ، وتفقد دول الخليج عددا من المتعاطفين التقليدين معها في مواقع السلطة الغربية او المثمنيين لمساعيها الخيرة في رفد التنمية العالمية، من جانب آخر فان المتوفر من الموارد وهي نفطية وغازية في الاساس بدات تستهلك في مشروعات لا تستطيع ان تتحملها شعوب المنطقة ، فتلك المشروعات مكلفة الى حد الاسراف وفاقدة لقدرة القوة البشرية المحلية على استيعابها ، خاصة في المجتمعات الصغيرة ومتجهة الى التاكل . من جانب آخر يجري جر بعض القوى الى معارك في الجوار المضطرب و هي ايضا تستنزف الطاقة السياسية و المالية الذي مهما بلغت وفرتها سوف تقصر عن تلبية الحاجات المتعاضمة و المتجددة للمجتمع النامي في دول الخليج مما يفتح الباب واسعا لاضطرابات اجتماعية ممكنة وربما غير متخيلة اليوم . امام هذه الصورة المعتمة و التي تختلط فيها الالوان يجد بشاره نفسه يحذر مما وجده ولمسة لمس اليد الخبيرة وعرف تحولاته على راسه الهوي السلبي لتجذر الهوية المحلية الى حد نفي كل الوشائج التاريخية والانسانية والنفخ في شق الخلاف حتى يتسع و يترك الجرح ليتقيح ،ويصفق بعض من ينفخ في الخلاف محبورا ان ذلك الخلاف سوف يقود الى صراع يسقط فيه الجميع من الاعياء و بالتالي يمكن الاجهاز على الكل بضربة واحدة . تحذيرات بشارة ليست من قبيل التشاؤم ولكنها من قبيل التحذير لايقاظ وعي جديد ، فمهما صرف من مال لتشويه الاخر الخليجي من قبل الاخ الخليجي فان الرابح هو الخارجي ، وهو بالطبع القوى الاقليمية التي تتاهب للقفز على ثروة الخليج و اللعب في اركان استقراره . دعوة بشارة الى اليقضة نابعة من رجل يعرف ماذا يتحدث عنه ويلمس السلبيات لمس اليد ويعرف عن يقين ان حدود الاستقرار تضيق على هذه المنطقة وبعض ذلك الضيق يساعد عليه التفكير الاني و الانصراف الى المناكفة في الوقت الذي تتعاضم فيه المخاطر .
آخر الكلام : مقدمون على زمن سوف يرتدي فيه الشر اقنعة جديدة .