قلوب الرجال صناديق أسرار

مجلة المجلة- 05 سبتمبر,2011

في النصف الأول من هذا العام ثارت جمهوريات عربية، التونسية والمصرية والليبية والسورية واليمنية والحبل على الجرار كما يقول المثل. في تلك الدول هناك اشخاص موثوق بهم كليا أو جزئيا من الأنظمة التي عملوا معها، عرفوا أسرار الدولة عن قرب أو على الأقل بعض أسرارها.

في ذات الوقت نجد أن الرؤساء الغربيين ومعاونيهم يحرصون على نشر مذكراتهم، ولم يبق إلا القليل الذي لم يفعل. تُخفى الأسرار في فضائنا السياسي العربي وتغبّر في القلوب ويخسر الناس دروسا أجدر بها أن تُعرف.

في تونس التي كان يوصف الحكم فيها بأنه يد حديدية في قفاز مخملي، إن صح التعبير، كان هناك عدد من الرجال الذين صاحبوا تلك الفترة وحتى نكبوا فيها ايضا لفترة اخرى. اذكر الصديق عبد الباقي الهرماسي وهو من القلائل من ابناء تونس الذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة، ثم عمل معنا في منتصف السبعينات في جامعة الكويت كأستاذ للاجتماع، وكانت اقامتة بيننا قصيرة، ثم اصبح وزيراً للثقافة في تونس ثم وزيرًا للخارجية، بعدها نُكب في أمره وانزوى، حتى دعاه الشيخ عبدالله بن زايد للعمل في أبوظبي وقضى فيها فترة ثم عاد إلى وطنه.

هذا الرجل وأمثاله من رجال تونس لا شك أنهم يحملون الكثير من أسرار الحكم هناك، وآلية اتخاذ القرار ومداخلات أقرباء الرئيس السابق وأقرباء زوجته ايضا السياسية منها والمالية، التي أدت في النهاية إلى الحكم المطلق الذي (فهم) بن على مشكلاته، متأخرا جدا حين قال فهمتكم.. فهمتكم!.

رجل آخر في مصر هو الصديق مصطفى الفقي وهو رجل صاحب قلم فياض ادخل عددا من المصطلحات السياسية الجديدة في الثقافة السياسية العربية منها على سبيل المثال لا الحصر (رجال الميزانيين)، ذكي ولمّاح. لما عرفته كان مديرا للمكتب السياسي للرئيس السابق محمد حسني مبارك. وفي اللقاء الذي قمت به مع الرئيس السابق صحفياً، وكان ذلك في عام 1991 لصالح صحيفة صوت الكويت وقتها، كان من (استنطقني) قبل اللقاء الموعود مصطفي الفقي.

واذكر أنني قابلته في مكتبه في الجامعة الأمريكية المطل على ما اصبح بعد ذلك ساحة الحرية، وهو ميدان التحرير. بعد ذلك تقلب مصطفي الفقي في مناصب عديدة، كان من أسباب إبعاده عن منصبه الرفيع ما يمكن أن يسمى بـ (مؤامرات القصر) وقد أُشيعت أكثر من رواية حول أسباب الاستغناء عن خدماته وقتها، ثم اصبح سفيرًا لمصر، وبعدها عاد إلى الخدمة البيروقراطية أو السياسية حتى انتهى رئيسا للجنة مهمة في مجلس الشعب.

هذا الرجل وأمثاله تحمل قلوبهم الكثير من الأسرار الخفية التي لو ظهرت إلى السطح لعرف الجمهور كيف تحاك السياسة في بلادنا وايضًا استفادت منها الأجيال القادمة.

واحدة من القضايا السياسية المهمة التي لازالت مغلقة،هي لماذا رفض الرئيس المصري السابق وبإصرار، أن يعين نائبا له طوال هذه السنين التي حكم فيها، وهو تصرف غير مفهوم، ربما له تفسيرات عدة، وغير ذلك من الأسرار التي اشتهر بها نظام مبارك والمعتمدة على ادخال الحلقات الضيقة في صراع مع بعضها ارضاء للفرعون.

شخص ثالث هو عبد الرحمن شلقم الذي انشق في الأشهر الأولى من قيام الثورة في ليبيا عن نظام القذافي، ولكنه طوال فترة عمله كان ملاصقاً للنظام يعرف بعض أسراره وربما الكثير منها. الاغتيالات التي قام بها نظام القذافي وقضايا مثل قضية موسى الصدر، و تفصيل قضية لوكربي واغتيال المعارضين الليبيين واختطاف بعضهم، مقتل أو الإدعاء بمقتل ابنة القذافي بالتبني في الغارة التي شنتها الطائرات الامريكية وقت حكم الرئيس رونالد ريغن على باب العزيزية معقل القذافي.. وكثير من الأسرار غيرها.

قلوب الرجال العرب الذين واكبوا عددا من الأنظمة التي سقطت عن قرب، في وقت أو آخر من عملهم البيروقراطي، مليئة بالأسرار. إلا أن الثقافة العربية – مع الأسف – لا تشجع أن ينشر هؤلاء وأمثالهم تلك الأسرار ويذيعونها على الملأ، ربما بسبب خوفهم من أن الناس سوف يعتبرونهم جزءا من النظام السابق، وهم يريدون أن يصبحوا من النظام الجديد، أو ربما لأنهم يخشون أن ينظر إليهم الناس على أنهم لم يكونوا مؤتمنين بما فيه الكفاية وخانوا أسيادهم السابقين، أو ببساطة خوفاً من أن لا يصدقهم الناس، ويفتحوا على أنفسهم باباً يفضل أن يبقى مغلق.

 

تلك هي هواجس الثقافة العربية التي آن لها أن تنتهي، وأن تعلن تلك القلوب عن أسرارها بما يمكن أن يكون دروسا مفيدة وحقيقية وعميقة للأجيال القادمة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.