
فبراير 2015
تشكل دراسة التيار الإسلامي السياسي في الخليج منزلقاً لم تشكله دراسة التيارات السياسية التي طفحت على سطح الخليج النفطي، فلا التيار القومي ولا اليساري كانا بعيدين عن النقد المعمق، وفي بعض الأحيان القاسي والمتحامل، إلا أن تيار الإسلام السياسي لم يكن لدى كثيرين دنيوياً كالاثنين السابقين، إنما هو – كما أراد أن يظهره محازبوه – تيار ديني. من هنا تأتي الصعوبة في التناول، لأن معظم أبناء الخليج يدينون بالإسلام، وهو مترسخ في ممارساتهم اليومية والتاريخية. لذا فإن نقد التيار السياسي المرتبط بالديني يشكل أمام البسطاء نقداً للدين ويهتم محازبوه أن يظهروا النقد تجاههم وكأنه نقد للدين نفسه، نأياً بأخطائهم السياسة عن المساءلة. من هنا تأتي تلك الصعوبة المنهجية التي أشرت إليها.
وعند الحديث عن «الإسلام السياسي» في الخليج، فنحن نتحدث عن تيارات منها كبير العدد ومنها صغيره، ومنها أيضاً الإسلام السني ومنها الإسلام الشيعي، وحتى بين الإسلام السنّي هناك اجتهادات بين فرق عديدة كالسلف، إلا أن تناولنا هنا سيكون باتجاه أغلبية الإسلام السياسي (السنّي) ونعرج بعد ذلك إلى «الإسلام السياسي الشيعي» الذي وجد له مكاناً للحركة بين أبناء الخليج الشيعة بعيد الثورة الإيرانية عام 1979. ربما تجدر الإشارة هنا، للتوضيح منعاً للّبس، أن ليس كل شيعي خليجي منخرطاً في تيار سياسي مذهبي، وكذلك ليس كل سني خليجي. الحديث هنا عن النشاط المنظم وشبه المنظم ذي المنحى الديني/ السياسي.
أبناء الخليج متدينون بطبيعتهم، كما معظم المسلمين، ولكن يضاف إليهم قربهم من الأماكن المقدسة في الحجاز وتاريخ طويل من التداخل بين أبناء هذه المنطقة من الساحل والداخل في الجزيرة العربية. ولدينا وثيقة هامة كتبها أحد الرحالة العرب في بداية القرن العشرين الفائت، هو المؤرخ أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب، لما وجد في ذلك الوقت أن الإرسالية المشيخية الأميركية المسيحية، قد طوقت الجزيرة العربية بعدد من الإرساليات التبشيرية، في كل من البصرة والكويت والبحرين ومسقط، كتب وهو المسيحي العربي يقول: «أنصح الإرساليات أن تهتم بالتطبيب والتعليم. أما التبشير، فعليهم أن يتركوه جانباً، حيث إن هؤلاء البدو الفقراء لن يتركوا دينهم قط!» هكذا كانت نصيحة الر يحاني، وكانت توقعاته، وهو الخبير، في مكانها، فلم تستطع تلك المراكز مهما قدمت من إغراءات، أن تنصر أحداً من أبناء هذه المنطقة إلا القلة القليلة الهامشية ولا تزيد عن أصابع اليد الواحدة تلك الأيام والجهل العام هو السائد والفقر منتشر، والحاجة الإنسانية ماسّة. ذلك دليل قوي على تغلغل الدين الإسلامي في قلوب وعقول أبناء هذه المنطقة التي حباها الله – بعد ذلك بالثروة النفطية وانتشار العلم والمعرفة والإطلالة على العالم من أوسع أبوابه.
دول الخليج تأثرت دائماً بما يحدث حولها من أحداث سياسية، خاصة في الشام وفي مصر، وأيضاً في مراحل من الهند وإيران، وقد وجدت دعوة «الإخوان المسلمون» المصرية التي نشأت في نهاية عشرينيات القرن الماضي من أبناء الخليج قبولاً، خاصة ممن ذهب منهم للتعليم في مصر، وبعض قادة الإخوان المسلمين الأوائل في الخليج، كانوا على معرفة بالمرشد الأول الشيخ حسن البنا وعند عودتهم أسسوا ما يشابه ذلك التنظيم الذي تزامن مع تدفق أول عائدات النفط في الخليج، وبدأ التعليم والنهضة الجديدة في أواخر أربعينيات القرن الماضي وأوائل الخمسينيات منه وما بعدها. ونشأت حركات جنينية نظمت نفسها في جماعات سَمَّتها أولاً (الإرشاد) ثم بعد ذلك (الإصلاح)، وأصبح «الإصلاح» نادياً ومقراً للمنتسبين حيث ظهرت نفس التسمية في كل من الكويت، البحرين، دبي. لم تكن تلك الدعوات بغريبة أو مستنكرة في مجتمع الخليج البسيط ذي الأغلبية السنية، فالدعوة إلى الله دائماً مُرَحَّب بها.
منذ الخمسينيات من القرن الماضي انتشرت تلك الجماعة، ووجدت لها أرضاً خصبة بل طبيعية حيث ركزت عملها في مجالين هما الدعوة والمساعدات الاجتماعية.
جاء الصراع بين إخوان مصر وعبد الناصر متزامناً مع تسارع تدفق دخل النفط في الخليج، وأيضاً موقفاً مضاداً لأفكار عبد الناصر من قبل السلطات الخليجية المحلية، ليجد إخوان مصر ومن ثم غيرهم من إخوان الشام الذين صادفوا تضييقاً عليهم في بلادهم، ملاذاً أمناً في الخليج في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي للعمل والدعوة في منطقة مريحة نسبياً. وأدمج هؤلاء بتسهيل من (إخوانهم) أهل الخليج، وبسبب الحاجة إلى يد عاملة متعلمة، في عدد من الأنشطة على رأسها التعليم، الذي كان لهم اليد الطولى فيه.، هذا النشاط الذي مكَّنهم كثيراً من التجنيد المحلي للشباب الخليجي، الذي تم أولاً تحت إطار الدعوة الخالصة لله، ولم تكن نشاطاتهم مثيرة للسلطة، ثم بدأ يتوسع للدخول في العمل السياسي والإعلامي النشط.
في البداية كان لحركة الإخوان قبول من شباب المنطقة ومن سلطاتها التي لم تتبين البعد السياسي للدعوة، كما حرص الضيوف أن لا يثيروا الكثير من الغبار السياسي على نشاطهم، فكانوا بمعنى من المعاني (موالين) أمام تهديد التيار القومي الناصري سريع الانتشار، والأفكار اليسارية التي أصبح بعضها مسلحاً كما حال «حركة تحرير الخليج» التي حاربت بمعونة القوميين ثم اليسارين في اليمن الجنوبي وفي عمان، وكانت مُشَكَّلة من خليط من شباب الخليج، وقتها كانت الحرب ضد ما سَمَّته النفوذ البريطاني والمؤسسات الحاكمة في وقت واحد، بالمقارنة بين التيار القومي اليساري المسلح بأفكار «انقلابية» وبين تيار سياسي إسلامي مسالم، كان التفضيل للسلطات هو الأخير، خاصة أن أفكاره مقبولة في النسيج الاجتماعي المتدين الذي ينبذ كل الكافرين بالله وبأولي الأمر. هنا اختلط الهدف السياسي مع الدعوة الدينية وبعد قليل تبين الفرق بينهما.
حقنة في الذراع – كما يمكن أن توصف – جاءت للتيار الإسلامي السياسي السني في الخليج لتدعمه، عندما احتل الاتحاد السوفياتي أفغانستان أواخر عام 1979 (حرب العشر سنوات) وأصبحت تلك البلاد مسرح صراع أممي بين الاتحاد السوفياتي (الكافر) في نظر الإسلام السياسي، وبين القوى (المؤمنة). ولعب، خلال العشر سنوات تلك، الإسلام السياسي والقوى السياسية المحلية دوراً مركزياً في الحشد والتمويل والدعم بالرجال باتجاه مسرح العمليات في أفغانستان، ليس بعيداً عن دعم وتشجيع القوة الأميركية وحلفائها. ونشط في تلك العشرية أشكال من القوى المنتمية للإسلام السياسي، كان الخليج محركها الهام، إلى درجة أن نقرأ في مذكرات كوندوليزا رايس – مستشارة الأمن القومي، وبعدها وزيرة خارجية إدارة بوش الابن 2000 – 2008 في كتابها الذي نشر أخيراً «أسمى مراتب الشرف» نقلاً عن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في اللقاء الأول بين بوتيين ووبوش الذي عقد في 16 يونيو/حزيران 2001 في شمال يوغسلافيا، تنقل رايس: «وبعد القلق الذي صاحب التحضير (للاجتماع) كونه الأول للرجلين، وخلال الاجتماع، أثار بوتين -وعلى نحو مفاجئ، ودون مقدمات- مشكلة باكستان، وأدان دعم نظام برويز مشرف، بسبب دعمه للمتطرفين، وذلك الارتباط بين الجيش والمخابرات الباكستانية وطالبان والقاعدة، وقال «إن هؤلاء المتطرفين يتلقون التمويل من بعض دول الخليج، وإنه في وقت قصير جداً سينتج عن ذلك كارثة كبرى..». ما يهمنا هنا هو الاشار من بوتين إلى (دعم بعض دول الخليج) وكان الدعم ذاك ربما من خلال نشاطات غير حكومية ومبادرات أهلية، لكن كان «غض الطرف الرسمي عنه» هو السائد.
في تلك العشرية (1979 – 1988) التي دارت فيها الحرب، وحتى انسحاب السوفيات في أفغانستان، نمت خلالها إرهاصات جماعات سميت لاحقاً بـ «الجماعات الإرهابية» التي جندت كثيراً من شباب العرب للحرب في أفغانستان وتشربوا كل من التدريب العسكري وأيديولوجية «الجهاد» التي تداعت بعد ذلك إلى مناطق كارثية على دول الخليج ودول العالم. ليس من الصعب عدم الربط، ونحن نجد أن معظم من ثبت تورطهم في كارثة 11 سبتمبر عام 2001 التي قلبت موازين القوى الدولية، ولازالت تفعل، هم من أبناء دول الخليج. كما اختلط بينهم مصريون وباكستانيون بعد ذلك، ليشكِّل وجودهم في الفضاء السياسي والعملياتي، هاجس رعب عالمي لم ينته تأثيره بعد. دخلت أيضاً القضية الفلسطينية طرفاً في الشعارات، ومن بوابة الخليج أيضاً دعوة وتمويلاً، فئة من الفلسطنيين الذي مروا أو سكنوا أو ولدوا في الخليج وتحت شعار «الانتقام لفلسطين» صبوا جهودهم لإشاعة فكر الجهاد، واستفادوا من التسامح المرن في هذه الدول للدعوة تحت شعار الإسلام، من أجل تنشيط دعوتهم الجهادية وحشد أنصارهم، بعضهم أو بعض تلاميذهم تحولوا إلى «الإرهاب» الذي سُمِّي جهاداً.
من بين الإسلاميين الذين ولدوا في الكويت خالد مشعل، وخالد الشيخ ولد في الكويت وتعلم، وعبد الرحمن عزام مهندس الجهاد في أفغانستان كانت دول الخليج ملعبه للدعوة والتمويل، وأيضاً عصام البرقاوي وبو محمد المقدس وعبد الله أبوعزة وغيرهم من المتشددين كثيرون كانوا في دول الخليج للتعليم وللعمل وأيضاً للدعوة.
خلط السياسي المحلي- أي المطالبة بالإصلاح المؤسسي- بقضية فلسطين وبالعداء للاستعمار، هيمن على خطاب الإسلام السياسي السنّي في الخليج ولا زال، إلا أنه ضبابي وغير واضح يزيده ضبابية أحداث سياسية، خاصة أحداث الربيع العربي، الذي من جهة أوصل قوى الإسلام السياسي المنظم وشبه المنظم (السني) إلى قيادة الحكم والسلطة في مصر وتونس ومشارك في ليبيا وفي اليمن وربما في سورية، وهي لازالت مشتعلة إذ يقوم الإسلام السياسي في دول الخليج بمهمات الدعم المالي الشعبي والإعلامي لها، كما نشطت من قبل، ولا زالت ثورة إيران النشاط السياسي الشيعي في المنطقة (لبنان) والخليج.
سقط الإسلام السياسي في الخليج في مغبة الضبابية إبان احتلال العراق للكويت، فقد اتخذ الإسلام السياسي العربي (القيادة الدولية للإخوان المسلمين) وعدد من تنظيماتهم، موقفاً شبه مؤيد لصدام حسين في احتلاله للكويت، مما دعا إخوان الكويت – تحت نقد شعبي مرير- إلى التنصل من التنظيم الدولي، وهم مستمرون في تفاصلهم معه – على الأقل علناً – حتى اليوم. كما يشتبه كثيرون في ولاء من قبل الإسلام السياسي الشيعي إلى طهران وولاية الفقية، الأمر الذي يرفع نسبة الشك بين مكونات المجتمع الواحد.
وصول إخوان مصر إلى السلطة جاء بالحقنة الثانية للإسلام السياسي السنّي في الذراع كما يقال، حيث إن مصر بلاد كبيرة ومؤثرة في فضائها العربي، وقد نشر كاتب هذا البحث مقالاً في الخليج تايم- دبي- في الأسبوع الأول من شهر يونيو/حزيران 2012 قال فيه بالحرف الواحد، بعد شرح مطول حول تأثير إخوان مصر على إخوان الخليج: «مما لا شك فيه أن الموجة الأيديولوجية التي تصيب مصر الآن، سوف تصل إلى المؤمنين من إخوان الخليج، إما من خلال تمتين الشبكة الحالية القديمة من المؤيدين، أو من خلال توسيع تلك الشبكة بمناصرين جدد، يشجع ذلك انتصارهم في مصر وتونس وغيرها من بلدان الربيع، مما سوف ينتج عنه توتر عال في علاقتهم بالحكومات المحلية، وربما يؤثر على موجة المطالبة بالإصلاح الشامل باتجاه معركة أوسع.». لم يكن ذلك التوقع المشار إليه خارجاً عن سياق الأحداث، لقد شعرت بعض دول الخليج بحرارة تأثير وصول الإسلام السياسي إلى الحكم وأشير إلى ذلك كثيراً في إدبيات ليست قليلة.
في لقاء في ندوة نظمها مركز الدراسات الاستراتيجية في البحرين في 18 يناير/كانون الثاني 2012، أشار قائد عام شرطة دبي ضاحي خلفان، في مداخلته من ضمن ما أشار إليه، إلى ما سماه قوى الإسلام السياسي التي قال عنها «إنها قوى انقلابية ترنو إلى الحكم المباشر والسيطرة على الأنظمة، وليس المشاركة السياسية معها» وكان ذلك أول تصريح علني لرجل خليجي مسؤول بهذا الوضوح، بعد أن بقي التحذير من الإسلام السياسي في الخليج حبيس الصالونات المغلقة، الأمر الذي أثار على الرجل زوبعة من النقد في وسائل الاتصال الجديدة، خاصة بعد إشارته إلى إخوان الكويت، لم ينفك منها لفترة طويلة، وذلك تأكيد للانتشار والحشد الذي يتميز به محازبو الإسلام السياسي في الخليج في مدن الخليج المختلفة.
يشكل ما أعلن عنه في الإمارات مؤخراً، ولم تعرف تفاصيله حتى الآن، مركز الأزمة بين تيار الإسلام السياسي في الخليج، لكن ذلك ليس الأول، فقد كان هناك عدد من تصريحات مشهورة للمغفور له ولي عهد المملكة العربية السابق الأمير نواف بن عبد العزيز مبكرة في نوفمبر وديسمبر عام 2002، حيث أنحى باللائمة على حركة الإخوان التي احتضنت المملكة رجالها في الستينيات من القرن الماضي وقت مطاردتهم، «فانتهزوا السماحة والكرم، وعملوا على بث أفكارهم التي لا تنسجم مع الإسلام الصحيح» وكان ذلك الخطأ الذي اكتشف متاخراً من السلط السياسية الخليجية حيث تبين لها أن الإخوان كانوا دائماً أكثر ولاءً لمعتقداتهم السياسية، منهم إلى مراعاة المعروف الذي قُدِّم لهم. عطفاً على ذلك تصريح وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2012 الذي أشار إلى تورط التنظيم الدولي للإخوان، فيما أعلن عنه أخيراً من اشتراك بعض مواطني الإمارات في الإخلال بأمن الدولة، وهو أمر لم تظهر حقائقه حتى الآن بشكل جلي للمراقبين. إلا أن المتابع يرى أن علاقات الإخوان مع السلط المختلفة في الخليج تمر بيوم بارد ويوم ساخن، حسب تقلبات النشاط السياسي في المنطقة والإقليم، بعض نشاطها يسكت عنه بسبب التوظيف، عندما يكون مرحباً بنتائجه، كحرب اليسار، وبعضها مسكوت عنه بسبب عدم الرغبة في إثارة الجوار مثل إيران، وبعضها ملاحق عندما تشتد المطالب.
تيار الإسلام السياسي في الخليج – كما هو في بلاد عربية عديدة- ليس واحداً، كما أن الخلاف بين بعض فصائله بات معروفاً، وهو ينقسم إلى عدد من الانقسامات بعضها ليس مسيَّساً بالمعنى الحديث للتسيُّس، فهو ينتمي إلى حركة وسرعان ما يقول بنقيض ما تؤمن به سياسياً. هناك اليوم أيضاً حركة سلفية مثلها مثل الإخوان ليست على «قلب رجل واحد» كما يقال، دخلت العمل السياسي في الكويت – على سبيل المثال في ثمانينيات القرن الماضي. إلا أن هبة ربط الإسلام بالسياسة، كما ظهر حتى الآن لم تتبلور تماماً في الفضاء العربي، فلا زال هناك صعود وهبوط ونقاش ساخن في كل من مصر وتونس، ليس كما حدث مثلاً في تركيا، حيث وضعت السياسة على قواعد حديثة مرتكزة على صناديق انتخاب واستعداد لتبادل السلطة من أجل العمل العام.
قوى سياسية وصلت إلى الحكم في بعض البلاد العربية تدثرت بالإسلام السياسي وحصدت أُكُلاً مراً سيئ الطعم، كما حدث في السودان، حيث اختلط العسكري بالديني بالسياسي، فضاع نصف السودان ونصفها الآخر مرشح للضياع، ولم تكن التجربة الإيرانية – على خلافها المذهبي- بمشجع أيضاً لحكم على خلفية إسلامية. تركيا هي الاستثناء، ولكن أيضاً مرت بمراحل تشدُّد عمياء، أثناء صعود أربكان إلى الحكم – خرجت بتجربة في تركيا – كما قال مستشار رئيس الجمهورية التركي السيد أرشاد هلمزلوا في محاضرة له في الكويت مؤخراً: «نحن لا نريد أن نصدر نموذجاً، نحن نزرع حديقتنا بالطريقة التي تناسبنا ولا ندعي تصديرها!».
دول الخليج ليست على سوية واحدة من التطور السياسي، أي وجود دستور وفضاء انتخابي واضح وقوانيين تنظم العمل السياسي، فالتيار الإسلامي السياسي بالضرورة سيكون على شاكلة الوضع الهلامي الموجود، فهو منظم وغير منظم، وعلاقاته مع الدولة غير واضحة، كما أن مطالبة العامة ليست على سوية واحدة غير متفق عليها. الخطورة في العمل السياسي القائم على ادعاء الإسلام كغطاء، أنه بالضرورة – مذهبي – في مجتمع تعددي، أي فيه أكثر من مذهب، سائد أو أقلية، يسبب الارتكان السياسي على إسلام سياسي مخاطره في شرذمة نسيج المجتمع. وبالتالي هو نقيض للعمل السياسي الوطني الذي يسعى إلى خدمة المواطن كونه مواطناً لا بسبب مذهبه. كما أن تأثير أحداث الجوار تسمم العلاقة المجتمعية في الخليج بين مكوناته، وفي المقابل تقصر إمكانيات الدولة عن ابتكار آليات للتطور السياسي المرغوب، كما تسمع – راضية أو غير ذلك – باستخدام المنصات الإعلامية بشكل كثيف في تسهيل أرضية التجنيد للإسلام السياسي. يزيد الطين بلة في الخليج تصدي البعض للتفسيرات الدينية (شيوخ الفضائيات) و(الدعاة الجدد) من أبناء الخليج ومن غيرهم للتصدي للفتوى من غير علم وفهم عميقين. إن قشرية المعرفة الدينية تضيف إلى صناعة التجهيل ثقلاً ينوء به كاهل المتلقي الخليجي، وهو ينطوي على شر سياسي بالغ الضرر.
حتى يتحول الإسلام السياسي إلى فرصة للإصلاح لابد أن يعترف بالسطة المدنية التي تنظم العمل السياسي على قاعدة المواطنة، المكون الديني المذهبي سيبقى في دول الخليج لأنه من صلب المجتمع، الخطورة في تقسيم طائفي هو بالضرورة مناهض للمساواة المدنية، وفي استمرار خلط المذهبي بالسياسي، فإن تهديد الأمن الوطني سيكون مكوناً من مكونات الصراع القادم.
نظرياً أخوان مصر حاولوا تجنب ذلك المنزلق بإنشاء حزب (مختلط) فيه يقوم الإسلام السياسي بفعل من هذا النوع، أي أحزاب على قاعدة مشتركة بين الطائفتين الأساس في المجتع، أم أن مصالح السياسة الآنية سوف تدفع إلى طريق أن يأتي التوتر بالمحازبين؟ ذاك هو التحدي الفكري ليس أمام أبناء الخليج فحسب بل والمستنيرين من العرب.