ثمانية عقود من النفط في الخليج أين الثقافة؟

ثمانية عقود من النفط في الخليج أين الثقافة؟

مقدمة:

السؤال الذي طرحته مجلة الفيصل وإن بدى في ظاهره بسيطا ومباشر الا ان محتواه ومرماه عميق ومتشعب الإجابات، هل أثر ظهور واستخراج وتسويق النفط على الثقافة بمعناها العام في مجتمعات الخليج؟ ام لا ؟ ليس هناك إجابة يمكن لمتابع أن يعطيها بشكل قاطع ، نعم او لا ! هي في الحقيقة نعم ولا في نفس الوقت! الموضوع يأخذنا أولا الى تعريف الثقافة؟ رغم وجود عشرات التعريفات للثقافة، التعريف الجامع عندي هي مجموع (معرفة ومهارة وموقف إيجابي من الحياة)، اما التعريف العملياتي فهو (الإنتاج الثقافي) مثل العمل الفني او الادبي او المسرحي او غيرها من المنتج ذاو البعد الثقافي المتعارف عليه  . ماذا أعنى بموقف إيجابي! كمثال   قد يحصل شخص ما على معرفة ومهارة، مثل طبيب حاذق، او مسرحي متميز، ولكن ان افتقد  هذه الطبيب او ذاك المسرحى موقف إيجابي من الحياة، فهو (ناقص ثقافة!) ـ أي ان رفض الطبيب علاج شخص بسبب انتمائه العرقي او الديني او غش في عمله، او مسرحي قدم مسرحية تُعلى أفكار التعصب ،وتهزا مثلا من ذوى الاحتياجات الخاصة مثلا ، ذلكم عندي يفتقد العنصر الثالث والمهم في الثقافة ( الموقف الإيجابي ) ،و حتى إن حاز على العنصرين الاولين !  ما هو الموقف الإيجابي من الحياة؟ هو ان يكون الانسان الفرد او الجماعة لها علاقة إيجابية بالإنسانية و ما توصلت اليه من قيم كبرى وعليا ، مثل المساواة و العدل و احترام الاخر واعلاء التسامح و حل الصراعات من خلال آليات متوافق عليها، أي تعظيم الروح الإنسانية بصرف النظر عن ديانتها او مذهبها او لونها ، الأمانة في العمل وقيمه و السعي لترقية المجتمع و احترام المرأة ، الصدق في أداء العمل ، الى آخره من القيم الإيجابية،.

السؤال المركزي:

في السؤال الذي طرحته مجلة الفيصل يذهب في تقديري الى الجزء (العملياتي) في الثقافة و هو الإنتاج الثقافي بتنوعه، ولكن الثقافة هي أوسع من النشاط الى الفكرة والموقف، بل ان الثقافة في نظري هي سلطة تستطيع ان تمنع وان تمنح ، تمنع التطرف مثلا، و قد تمنح التطرف ، هي قد تمنع فهم الاخر ،وقد تمنح الفهم السليم للأخر، هي سلطة قد لا تكون ظاهرة، ولكننها مؤثرة في الافراد والمجتمعات.

اذا حسمنا الجزء الأول من الإشكالية، فلدينا الجزء الثاني منها ،وهو هل انعكس النفط ( استخراجا و تسويقا ودخلا) على مجتمعات الخليج ثقافيا و اجتماعيا ؟ سلبا او إيجابا ؟   هنا نجد انفسنا امام إشكالية تحليلية بالغة التعقيد، عادة الثقافة بمعناها الشامل لها علاقة بكيفية انتاج المجتمع لخيراته، فمثلا في بعض دول الخليج قبل النفط كانت تنتج الخيرات (الدخل المجتمعي) من العمل في صناعة الغوص او غيرها من الاعمال المنتجة  ، فلذلك تكونت ( ثقافة) مجتمعية مبنية أساسا على تلك الطريقة لإنتاج الخيرات! مثلا توزيع الثروة ، العلاقات التراتبية في المجتمع، الزواج، الاحتفالات في المناسبات، النظر الى المرأة ، طريقة البناء و نوع الاكل ،معظمها قائم على طريقة انتاج الخيرات في ذلك المجتمع ، سواء في  المجتمع الزراعي المحدود أو ركوب البحر ، و أيضا رعي الأغنام والعيش في البادية والغوص على اللؤلو . كان لذلك المجتمع الذي عاش بين الغلضة في الصحراء و الليونة في الساحل التجاري او مواحهة اهوال البحر غير المتوقعة، ذلك المجامع كان له ثقافة ما نرتبطة بانشطته الاقتصادية وطريقة خياته.، فلا يوجد مجتمع دون ثقافة، الاختلاف في نوع ودرجة و شكل تلك الثفافة!

ماذا حدث للثقافة بعد ظهور النفط؟

هناك وجهات نظر متعددة في التاريخ لظهور النفط، بعضهم يأخذه الى ثمان عقود، وبعضهم يتحدث عن الخمس عقود الذهبية للنفط في دول الخليج، الأول يؤرخ لبدا انتاج النفط، والثاني يبدا من نقطة الاستفادة العامة لهذه المادة في المجتمع ، ثم هناك حقيقة أخرى ان النفط لم يظهر او حتى يستفاد منه بشكل جماعي في كل منطقة الخليج في وقت واحد، ظهر واستفيد منه على شكل حقب مختلفة، ربما تبدا في الثلاثينات من القرن الماضي في كل من ( البحرين، السعودي، الكويت) و الستينات في ابوظبي وعمان. الا ان الإشكالية المطروحة امامنا ان الكثير من العناصر الثقافية في كل تلك المجتمعات استمر تأثيرها  ( اي شكل انتاج الخيرات  ) في الظهور ثقافيا عليها، حتى لو امتلكت النفط، النمط الجديد من الإنتاج ( النفط)  لم يساهم فيه المجتمع بشكل واسع ، الشركات الأجنبية اعتمدت على عمال أجانب فنيين وشبه فنيين، وتركت الاعمال البسيطة للمواطنين لفترة طويلة ، وحتى الدولة الخليجية كان دخلها من النفط متواضعا بنسبة اقل  من دخل الشركات النتجة ، ولم تتعدل تلك المعادلة الا في سبعينات القرن الماضي نسبيا.فليس هناك قطيعة بين ثقافة ما قبل النفط وما بعد النفط، مع الاعتراف ان هناك انماط ثقافية تبنها المجتمع الخلجي\ النفطي ، كونه قد تاثر بشكل اكبر بالثقافة العربية التي انتجتها العواصم العربية التي امتلكت الهمينة الناعمة على الثقافة العرية بعد التحرر من الاستعمار ( متذ الثلث الاول من القرن العشرين) كالقاهرة ودمشق وبغداد، كما تبنت مجتمعات الخليج لاحقا انماط من الثفافة الغربية. ومن أجل حاجة الدولة الجديدة للتنظيم ،كان لا بد من اعتناق وتبني انماط ثقافية مستجدة.

اذا لدينا مشهد في (الثمان، او الخمس عقود الماضية) هو كالتالي، انحسار تدريجي ولكن سريع في الإنتاج للخيرات التقليدية ( المتواضعة) في الخليج،   ومن ثم  تدفق الدخل النفطي والاعتماد على ( ما تقوم به الدولة من خدمات وفرص عمل ) وهي المالكة للمصادر الثروة الجديدة ، وفي نفس الوقت تصاعد تدريجي لدخل الدولة من النفط التي مكنتها بان تكون ( ربة العمل ) شبه كامل لليد العاملة . في الحال الأخير، قامت الدولة من الناحية الثقافية بافتتاح المدارس الحديثة (ولكن ليس دون مقاومة من العناصر الثقافية السابقة) كالقبول التدريجي بتعليم الأبناء و مقاومة تعليم الفتيات، على سبيل المثال .كما قامت الدولة الخليجية بأنشاء الجامعات وأيضا   بتقديم الخدمات الأخرى كالعلاج وتوسيع جماعة الضبط  (الشرطة والجيش) و توسع القطاع التجاري ( الخاص) وهي مؤسسات لم تكن موجودة في نظام الإنتاج القديم ( كان هناك حرس أسواق، و ان احتاجت الدولة الى حماية فمن المتطوعين)  فتم ظهور طبقة متوسطة واسعة ،علينا هنا ان نلحظ ان الثراء النسبي لدول الخليج قد أثار حفيظة مجتمعات قريبة عربية، كانت حتى وقت قريب اكثر غنى نسبي واكثر تطورا بشكل عام . هنا لعبت الثقافة دورا مزدوجا  (بمعناها العملياتي و العام) فقد ساهم كثير من العرب بوضع البنات الأولى للأعمال الثقافية ( مدارس، صحف، مجلات) وبعد ذلك محطات تلفاز الى اخره ، وكانت مساهماتهم إيجابية، خاصة في التدريس ، ولكن في نفس الوقت ظهر لدى البعض ( سندروم) سلبي، يقول في الغالب، ان هذه المجتمعات الخليجية هي مجتمعات (بدوية) لا تستحق تلك الثروة، وبل وتتصرف فيها بشكل سلبي !

الثقافة والنفط في دول الخليج ، فجوات ثقافية غير مُجسرة

في تقديري لم تنتبه النخب في الخليج  حتى الان و بشكل جدي لأهمية الثقافة بمعناها العام والعملياتي في تطوير مجتمعات الخليج ،كونها قاطرة للتنمية و التطور ، وقد اطلق النفط في الخليج قوى متعارضة ، فقد ظهرت  وعلى وتوسعت الأخص النخب بمعناها الحديث في هذه المجتمعات، اي طبقة وسطى واسعة من موظفي الدولة في القطاعات المختلفة ومن الطبقة التجارية  ، كما اطلق النفط توترات اجتماعية ، بسبب طبيعته ( انتاج الخيرات خارج جهد النخب ) ادى الى وجود الامر ونقيضة في المجتمع ،مثل وجود (تعليم المرأة و السماح بعملها وعزلها في نفس الوقت!)  ووجود مطبوعات جديدة وبالغة الثراء مع (رقابة نظامية او مجتمعية صارمة) في الاطار الثقافي فكثيرا من المشروعات الثقافية التي ظهرت في الخليج ، لم تكن مؤطر و مؤسسية وهادفة الى تكوين ثقافة عامة للمجتمع تساعد على التوجه الى اهداف تنموية واضحة والى تنظيم الشعور الثقافي المجتمعي  . الأسباب كثيرة لهذه الظواهر ، احدها أسعار النفط، التي تنخفض وترتفع، أعطت الدولة شكلا من الأمان النسبي ، وربما الخادع  بان ( القائم دائم) ،وبان مشكلات اليوم سوف يحلها ما يأتي به الغد، وهو جزء من التفكير الثقافي المرتبط بأسلوب انتاج الخيرات السابق !  ساعد على ذلك جماعات سياسية عربية، اضطهدت في بلادها لأسباب صراعية\ سياسية، و وجدت ملاذا للعمل في دول الخليج التي كانت تطمح في تقديم خدمات، خاصة تعلمية لشعوبها، فاستولت تلك الجماعات على مراكز نافذه في التعليم ، خلطتها بأفكارها اعتقدت انها مقبولة للمجتمع  التقليدي ( في الخليج)،وهي أفكار (تراثية) مطعمة بتصورات وطموحات  سياسية!  زامن ذلك اندلاع صراع أيديولوجي في المنطقة، جزء منه الصراع الدولي ( الحرب الباردة)، وجزء منه صراع اجتماعي محلي في الإقليم المحيط بالخليج  . وبسبب تقلص فرص التعبير النسبي في بلاد كانت قائدة للأعمال الثقافية العربية، مثل بغداد والقاهرة ودمشق ، ظهرت مبادرات في دول الخليج على قاعدة ( خدمة الثقافة العربية) فنشأت مثلا مجلة العربي في الكويت 1958 ، التي ذاع صيتها لعقود من الزمن  ، كما ظهرت سلاسل كتب مثل (عالم المعرفة 1977) كما صدرت مجلات في كل من المملكة العربية السعودية ، ولحقت بعد ذلك قطر بإصدار مجلة الدوحة، ثم باحتضان مؤسسات بحثية عربية أصبحت مرموقة، ولحقتها دولة الامارات العربية المتحدة، فأصدرت على سبيل المثال  النسخة العربية من مجلة (ناشونال جيوغرافيك) الذائعة الصيت، كما ساهمت عُمان بإصدار مطبوعات لها قيمة ثقافية عالية . كما ظهرت وتطورت مؤسسات بحثية اما داخل الجامعات الخليجية التي تكاثرت تدريجيا  لتصبح اليوم اكثر من ستون جامعة  (حكومية واهلية) عدى المؤسسات التعلمية ما دون الجامعة ( كليات) او مؤسسات بحثية خارج الجامعات، مستقلة او تابعة لاحد الإدارات او الوزرات، بل انشأ القطاع الخاص في الخليج  مؤسسات ثقافية مرموقة ،مثل مؤسسة التقدم العلمي في الكويت 1977 ( مؤسسة يمولها القطاع الخاص) و مثل مؤسسة العويس و الماجد في الامارات في تسعينات القرن الماضي ، و مؤسسة البابطين وسعاد الصباح في الكويت او مؤسسة الخوجة في مدينة جدة  ، بل اصح رجال من الخليج يرعون مؤسسات ثقافية رائدة ، كما فعل الأمير خالد الفيصل في التفكير وانشاء المؤسسة المرموقة عربيا ( مؤسسة الفكر العربي) وغير ذلك الكثير، خاصة في  ظهور النوادي الأدبية  المختلفة، كل ذلك التطور الكمي شكل تراكما معرفيا يعزز نوعيا في الإنتاج الثقافي العربي ،ولكن ذلك الكمي سرعان ما سوف يصبح نوعي ، بمعنى تشكيل منصة (خليجية) للأبداع الثقافي أرى ان تباشيرها قد ظهرت في مجالات مثل الرواية، العمارة ، والإدارة ، الفنون المختلفة. ونرى كتاب قد صدر مؤخرا بعنوان ( هيمنة ناعمة: سعود وتراجع القوة الناعمة المصرية) لاحمد محمد ابوزيد، ( دار عين للنشر 2015) يقول صفحة 159  : ”  بان النصف الاول من القرن الحادي والعشرين ستكون الكلمة العليا في تحديد مسار ومستقبل المنطقة العربية في ايدي دول مجلس التعاون” هذا النص الطويل الذي اقتطفت منه كلمة موجزة ، لم ارغب ان اكتبه انا، بل من متابع عربي من غير ابناء المنطقة،وهو شهادة الى صعود القوة الناعمة الخلجية من خلال العمل الثقافي والعلمي و المؤسسي .

 

الإشكالية مع الآخر

تنظر بعض النخب العربية الى مجتمعات الخليج نظرة سلبية ثقافيا ، نابعة اما من عدم معرفة او دوافع ربما تكون نفسية، ذكرت بعضها سابقا، وربما لأسباب سياسية، تلك النظرة السلبية تقوم على فكرة غير علمية وهي ( تفوقنا وتخلف الاخر) وان هذه المجتمعات لا تواريخ حقيقية لها قبل ظهور النفط ، كانت قبله متخلفة لا تملك ادنى مقومات الحضارة، لان الحضارة تشأ على حد قول الكاتب محمد حسنين هيكل في ( الأخضر و ليس الأصفر)! كنابة عن المناطق الزارعية ومناطق الصحراء   تلك الأفكار بجانب انها غير علمية تتصف بالمبالغة و ربما التحيز او التشفي ، لأسباب مختلفة،  وان كان لي ان اضع نسبة من اللؤم فانه يُقاسم بالتساوي ، بين النظرة السلبية من بعض النخب العربية ، وبين تقاعس من جانبنا في الخليج، فنحن لم نبذل جهدا من اجل العمل والتفكير في منظومة فقهية تساير العصر ، او وايمان راسخ بأهمية الثقافة وماسستها ، بل ان بعض النخب العربية تدعي ان ( التخلف الفكري) المتمثل في (ملابس و اشكال ظاهرية للرجال والنساء) هو ( فقه الصحراء)! هذا الامر لم نلتفت اليه بشكل جدي، كنا في الغالب في مكان الاعتذار او التبرير، وليس في مكان التفكير الإيجابي لإعادة النظر في تخليص الفكر الفقهي مما اعتراه من مفاهيم ميتافيزيقة، كما إعادة النظر في المنظومة التعليمية من اجل تخليصها من الشوائب السلبية التي تبدو وكأنها مناقضة لواقع العصر.

لا شك عندي شخصيا ابان الثقافة بمعنها العام والعملياتي هي قائدة التطور، وان ما نعانيه اليوم من أزمات جلها أساسه ثقافي، كما لا اشك ان (موضوع الثقافة) لم يلتفت اليه كما ينبغي من خلال أهميته وجدارته بان يوضع في صلب خطط الدولة الخليجية، وان لا يعامل كانه ( شكل زائد) من الكماليات، اول ما يصل اليه (سيف التخفيض) يصل الى مؤسساته وانشطته، الثقافة سلاح عرفته الشعوب جميعا ، وقد قال جلال الدين الرومي : اعطني قلما استطيع به وحدة ان اواجه به السيوف الرماح ! كناية عن أهمية العلم والثقافة في تطور الشعوب و رقيها .

 

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.