: دراسة الخلل السّكاني بين النّظام الاقتصادي والنّظام السّياسي
يُمكننا تعريف الخلل السّكاني على أنّ دول المنطقة تتأسّس على مجتمع يُشكل فيه وافدون غير مواطنين نسبةً عاليةً من سكان وقدرات المجتمع الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعية، لفترةٍ ممتدّة ومتّصلةٍ من الزمن . مما لا شك فيه ان الوافدين لعبوا دورا تنمويا رئيسا في بناء ونهضة مجتمعات دول مجلس التعاون، وليس هذا موضوع النقاش. ففي كثير من المجتمعات في تاريخ البشرية تواجد فيها الوافدين بصورة مكثفة، لكن التطور في اغلب هذه المجتمعات على امتداد الزمن كان يعني اما عودة الوافدين الى ديارهم بعد انقضاء المهمة والفترة معينة التي قدموا من اجلها، وبذلك تتقلص نسبة الوافدين، او ان يتم دمج الوافدين على مر الوقت في المجتمع فيصبحوا جزءا مكونا منه و مواطنين شركاء فيه تجمعهم وحدة الارض والمصير. اما حاليا فلا هذا ولا ذاك هو الحاصل في دول مجلس التعاون، حيث تتزايد اعداد الوافدين مع مرور الزمن، وامكانية اندماجهم تبدو شبه معدومة لا من ناحية القدرة الفعلية او ارادة شعوب المنطقة، بل نرى تجذر انقسام المجتمع قانونيا واقتصاديا واجتماعيا بين مواطنين ووافدين. وهذا الوضع ينذر بأن التركيبة السكانية الحالية في دول المجلس غير مستدامة على المدى البعيد، وهنا مكمن الخلل.
انطلقت المشكلة السّكانية في الأساس مع بداية الصناعة النّفطية في الخليج، وتجذّرت بشكل معمّق، وأصبحت واقعاً في المجتمع مع الطفرة النفطية في سبعينات القرن الماضي، والتي كانت بمثابة الأساس المادي للتركيبة السكانية التي نراها اليوم في دول الخليج. وقد أتت التغيّرات المصاحبة للتركيبة السكانية في خضم عملية تفعيل هذا النظام، ومن ثم إعادة إنتاجه لنفسه[1].
إنّ نظام الإنتاج الاقتصادي اعتمد على تهميش دور المواطنين إنتاجياً “حتى أصبحوا لا يمثلوا أكثر من نصف القوى العاملة في أي من دول المجلس، وقد كان هذا في الواقع النتيجة المترتّبة على توجيه القوى العاملة نحو خدمة النّظام الاقتصادي الرّيعي والمستفيدين منه داخلياً وخارجياً. أمّا المواطنون أنفسهم، فقد تمّ محاولة شراء رضاهم عبر إعطائهم نوع من الميزات الحصرية التي توفّرها لهم الدّولة الرّيعية، من خدمات إسكانية وصحية وتعليمية. وبطبيعة الحال، لا تشمل بعض هذه الخدمات القوى العاملة الوافدة، التي أخذت تتوافد على المنطقة بتزايد مطّرد. فهؤلاء قد تمّ منعهم من بعض تلك الميزات لتسهيل استغلالهم “وللحدّ من نفوذهم في القطاع العمّالي والسّياسي، فتمّ فعليّاً حظر إمكانية التوطن والتشكيل العمالي وامتلاك رؤوس الأموال على غير المواطنين”[2]. ممّا أدّى إلى تكاثر حالات الاضطهاد والمعاملة الدّونيّة التي يتعرّض لها الكثير من العمالة الوافدة. ولإعتبارات اقتصادية وسياسية مشابهة، تدنت نسبة العرب من بين الوافدين على مر الزمن، والذين كانوا يشكلون اغلبية الوافدين فيما قبل الطفرة النفطية، اما اليوم فلا يشكلون اكثر من الربع.
لتحليل الخلل السكاني بصورةٍ ترنو إلى جوهره، لابدّ من ربطه بنيويّاً بنظام الإنتاج الاقتصادي السائد، وعدم التّعاطي مع الخلل على أنه مشكلة سياسيّة بحتة، وفي نفس الوقت من غير التّغاضي عن الدّور الرّئيسي الذي يلعبه النظامُ السّياسي في تعميق الخلل.
الاقتصاد الرّيعي والخلل السكاني
إن لارتكاز الاقتصاد على ريع النفط اليد الطولى في إنتاج الخلل السكاني عبر تغيير التركيبة الاجتماعيّة بصورةٍ جذرية وفجائية نسبياً. وحسب مقومات نظام الإنتاج نفسه، فقد “كان لمن يتحكّم في إيرادات الصناعة النفطية ورؤوس الأموال المنبثقة منها؛ القوة والنفوذ الرئيسيين في تشكيل مجريات المجتمع الاساسية.” وقد نجد هنا المدخل السّليم لفهم علاقة النّظام السّياسي(من ناحية سياسيّة بحتة) بالخلل السّكاني. وقد اتّضح أنّ إيرادات النّفط الهائلة التي أخذت تضخ في الخزائن الحكومية؛ قد أدت إلى استقلال الحكومات عن المواطنين في اتخاذ القرارات السياسية والاجتماعية، واستعمال الإيرادات لتغيير التركيبة الاجتماعيّة والسّكانية لخدمة رؤوس الأموال المستفيدة من ريع النفط، وهكذا، في دوامةٍ من تراكم رؤوس الأموال أدّت إلى تضخم هائل في جهاز الدّولة، لم يحظ منه المواطن إلا بالفتات الكافي لشراء رضاه السياسي. فـ” مع تدفق إيرادات النفط، والتي بحلول عام 1973 ذهبت في المقام الأول إلى خزينة الدولة؛ تقلصت اعتمادية الانظمة الحاكمة للموارد الاقتصادية على التجار أو على المواطنين، وفعليا رفع الاعتماد الاقتصادي على السكان المحليين من ناحية متخذي القرار وأصبحت قوة رؤوس الأموال في يدهم”.
وهناك أيضا عوامل سياسية بحتة أدّت إلى تفاقم الخلل في بعض دول المجلس، وأضافت إليه بعداً جديداً لا يرتبط مبدئياً بمسألة العرض والطلب على الأيدي العاملة. الكلام هنا عن مسألة التجنيس السّياسي كما نجدها، مثلاً، في البحرين. إلا أن هذه العوامل السّياسية البحتة، على الرغم من خطورتها الكبرى على السلم الأهلي؛ لا تُشكل الأساس في الخلل السّكاني. فمن الواضح أنه حتى لو تمّ حل مشكلة التجنيس السياسي، ستظل النسبة الكبرى من القوى العاملة في المنطقة من غير المواطنين، أي أن الخلل السكاني سيظل هو هو.
على الرغم من أن الخلل السكاني وجد شرط وجوده في الاقتصاد الريعي النفطي، إلا أنه لا ينبغي حصره في جانب السياسات الاقتصادية لحكومات المنطقة. فللمواطنين أنفسهم دور في رفد هذا الخلل بسبب تمتعهم بالرفاه النفطي. فقد أدّت موجات استقدام العمالة الوافدة إلى مشاركة المواطنين أنفسهم، تحت رعاية الدّولة الريعية، في الاستفادة من هذه العمالة الرخيصة. وبدأت بذلك عادات توظيف الأيدي العاملة غير الوطنية في قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، وكذلك في قطاع الخدمة المنزلية؛ بتزايد مطرد وملحوظ منذ السبعينات. ومع استفادة فئات واسعة من مواطني المنطقة من الوضع السكاني القائم، أصبحت التغييرات السّكانية لا تصبّ فقط في مصلحة الحكومات والعائلات التجارية الكبرى فحسب، بل أيضاً، ولو بشكل نسبي، في مصلحة فئات واسعة من المواطنين أنفسهم[3].
واليوم، وخاصة مع بداية الطفرة النفطية الثالثة مطلع القرن الحالي، اتجهت رؤوس الأموال نحو المشاريع العقارية في دول الخليج نفسها. فالمنطقة تشهد توسّعاً لا مثيل له في القطاع العقاري، والذي نجد له نموذجاً واضحاً في دبي، التي أثبتت “أن التوسّع العمراني غير المرتبط بحاجة السكان …) ) هو مصدرٌ ينافس النفط وبيع الأراضي في وسط البحر، قادر على جلب موارد مالية من خلال ربط شراء العقارات بالإقامات الدّائمة، بصرف النظر عن اعتبارات الهويّة الوطنيّة وتفاقم الخلل السّكاني المزمن.
ومن التبعات السكانية الأخرى للسياسات الاقتصادية، نجد اعتماد حكومات المنطقة بشكل متزايد على الشركات الاستشارية والمعاهد الأجنبية، التي تنظر إلى البلدان وكأنها مشروعات تجارية،“وليس دولا وطنية عليها واجب بناء الدولة وتأهيل المواطن وتفعيل دور المجتمع وتحقيق التماسك الاجتماعي من خلال عملية تنمية وطنية مستدامة ذات بعد إنساني، عملية تنمية تكون لصالح أهل المنطقة بأجيالهم المتعاقبة، ويكون دور المواطنين هو الدور الرئيسي في قيادتها وتحديد خياراتها”[4].
التطورات الرئيسية في الخلل السكاني
بشكل عام، يُمكننا إدراك حجم الخلل السّكاني عند النظر إلى نسبة السّكان غير المواطنين في بعض دول المنطقة، والتي تجاوزت 85%، الأغلبية الساحقة منهم من الأيدي العاملة. وإذا ما تفحّصنا بعض الحالات بشكل خاص، اتّضح لنا هول المشكلة بوضوحٍ أكبر. ففي حالة الإمارات، على سبيل المثال، نجد أن عدد السكان قد تضخّم بأكثر من الضعف في غضون5 سنوات -2002 و2007م – وبلغ ثمانية ملايين نسمة، انخفضت فيها نسبة المواطنين إلى أقل من 10%، وانخفض إجمالي قوة العمل التي يمثلونها إلى أقل من50%. أما في قطر، فقد تضاعف عدد السكان من حوالي 700 ألف نسمة عام 2004 إلى1.5 مليون عام2008م. وهكذا، فقد تدنّت نسبة المواطنين في قطر من29% عام2004 إلى16% عام2008، وتدنت معها نسبة مساهمتهم في قوة العمل من15% إلى7%. أما حالة البحرين، فقد نشرت الصحف المحلية يوم28/2/2008م إحصائيات رسمية مفادها أن عدد سكان البحرين قد زاد من742 ألف نسمة عام2006 إلى1.05 مليون عام2007، أي أنه زاد بنسبة42% في عام واحد. وقد تضاعف عدد الوافدين في هذا العام من283 ألف إلى517 ألف، وبذلك تدنت نسبة المواطنين في إجمالي السكان من الثلثين إلى النصف. أما من ناحية إسهام المواطنين في قوة العمل فقد تدنّت مساهمة البحرينيين من حوالي35% عام2006 إلى15% فقط عام2007م[5].
وبحسب أحدث الإحصائيّات الرّسميّة عند إصدار هذا العمل، وصل عدد سكان دول مجلس التعاون في عام2011 إلى أكثر من46.5 مليون نسمة،52% منهم (24.3 مليون) مواطنون، و 48% (22.1 مليون) منهم أجانب[6]، وبهذا توازى تقريباً عدد المواطنين والأجانب لأوّل مرة في تاريخ المجلس. ويتوقع أنّ يتعدّى عدد الأجانب عدد المواطنين في غضون الخمس سنوات القادمة على أبعد تقدير. هذا، فيما يُشكل الأجانب الأغلبية المطلقة في أربعة من دول المجلس حالياً، وهي: الإمارات، والبحرين، وقطر، والكويت.
جدول 5.1: تعداد السكان في دول مجلس التعاون
*قطر لا تنشر احصائات رسمية حول عدد المواطنين. تم تقديرهم المواطنين بعدد 225 الف.
المصدر: اجهزة الاحصائات الرسمية في كل من دول المجلس.
أمّا بالنسبة إلى سوق العمل، فقد وصل إجمالي عدد القوى العاملة في دول مجلس التعاون إلى ما يفوق 18.6 مليون فرد في عام 2011م، 69% منهم من الوافدين و31% منهم من المواطنين، ويمثّل الوافدون الأغلبية في سوق العمل في كلّ دول المجلس بلا استثناء، بما فيها الدّول الأكبر حجما نسبيّا، مثل عمان 77% في عام 2011، والسعودية 55% في عام 2012م.
جدول 5.2: تعداد سوق العمل في دول مجلس التعاون
المصدر: اجهزة الاحصائات الرسمية في كل من دول المجلس.
ويتمركّز المواطنون في سوق العمل في القطاع الحكومي بشكل أساسي، بينما يتمركّز الوافدون في القطاع الخاص في كلّ دول المجلس.
واذا ما قورنت بأعداد السّنة التي سبقتها، فقد تواصل إجمالي أعداد الوافدين في السّكان في الزيادة بنسبٍ سنويّة أعلى من نسب المواطنين فيما عدا في الإمارات والبحرين، بل إنّ أعداد الوافدين في إجمالي السكان؛ سجلت تراجعاً ملحوظاً في البحرين حسب الأرقام الرّسميّة (تراجع بنسبة 7.2%)، إلا أنّ تواصل نمو أعداد الوافدين في الإحصاءات الرّسميّة لسوق العمل في نفس الدولة، وبنسب أعلى من المواطنين؛ يضع شكّاً حول صحة هذه الارقام. والجدير بالذكر أن هناك غموضاً وشكّا كبيرًا يلمّ الأرقام الرّسميّة المُعلنة في دول مجلس التعاون، ومن المتوقع أن الأرقام الرّسمّية تقلل من الأرقام الفعلية للوافدين.
قطر، على سبيل المثال، لا تنشر أرقاماً رسميّة حول عدد مواطنيها، والذي يُعتبر سرّاً من أسرار الدّولة، إلا أنه يُتوقع أنهم لا يتعدّون 300 ألفا كحدّ أقصى من عدد سكان بلغ أكثر من 1.8 مليون عام 2012م. الإمارات أيضاً لا تنشر بشكل دوري أرقاماً رسمية لحجم سوق العمل على مستوى الاتحاد (على الرغم من تواجد إحصائيّات دوريّة مُعمّقة على مستوى بعض الإمارات منفردة(، حيث يعود آخر إحصاء رسمي لحجم القوى العاملة في الاتحاد الى عام 2005م، وممّا هو مؤكد؛ فإن الرّقم الرسمي لعام2005 م لا يعبّر عن واقع الحال في2012م. في المقابل، فهناك تضاربٌ كبير في الأرقام الرّسمية لعدد سكان الإمارات، حيث أعلن المركز الوطني للإحصاء أنّ عدد سكان الإمارات في آخر نشرة له هو 8.2 مليون في عام2010م، بينما أعلنت غرفة تجارة وصناعة أبوظبي في أرقامها الرّسميّة لعام 2011م أنّ عدد سكان الإمارات كان 7.2 مليون، ولم يُعرف ما هو سبب هذا التّضارب الكبير في الأرقام.
وليست أوضاع الإحصائيّات أفضل حالاً بكثير في باقي الدول، نظراً لتجذّر ظاهرة العمالة السائبة، وبسبب اعتبار الكثير من الدّول عدد سكانها جزءاً من الأسرار القوميّة التي لا يجب الفصح عنها.
لقراءة الجزء التالي من الاصدار
لقراءة النسخة الكاملة من الاصدار (pdf)
لتصفح محتويات الاصدار الكتروني
[1]عمر هشام الشّهابي، “اقتلاع الجذور: المشاريع العقاريّة وتفاقم الخلل السّكاني في مجلس التّعاون لدول الخليج العربيّة“، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2013م)
[2] المصدر نفسه، ص 6
[3] راجع المصدر نفسه: ص 21- 34
[4] الكوّاري، “الخلل السّكاني اعتداء على حقوق المواطن” (2008). انظر:http://dr-alkuwari.net/sites/akak/files/artical_gcc_population.pdf
[5] المصدر نفسه.
[6] حسابات المؤلف من اجهزة الاحصاء الرسمية في كل من دول المجلس.