مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية
اللقاْء السنوي الحادي عشر
التحفظات على الديمقراطية في البلاد العربية
الديمقراطية و النخب العربية
الدكتور محمد الرميحي
دراسة :أكسفورد 15/8/2001
أ. د . محمد الرميحي
الديموقراطية هي “حكم الشعب، من خلال الشعب، ومن أجل الشعب”
أبراهام لنكولن
“إني أقولها صريحة ورزقي علي الله، وهي أننا على درجة من التخلف أدعو الله أن لا تطول معنا بحيث ندخل عصرنا هذا. وعقيدتي أننا لو استطعنا أن ندخل القرن العشرين في آخر أعوامه لكان ذلك خيرا نحمد الله عليه”.
زكي نجيب محمود، 1971
الديمقراطية هي التسليم و القبول بتعدد النخب في المجتمع، وحقها في السلطة
James Burnham
“الديمقراطية ليست مرآة للحرية فقط ولكنها للمسؤولية أيضا”
قسطنطين زريق، الحياة مايو 1990
الديموقراطية هـي أسلوب حكم، وطريقة حياة، وهدف، ونموذج، وآلية، وهي قبل هذا وذاك فلسفة سياسية. والصفة السياسية في النظام الديمقراطي هي مسؤولية الحكام عن أفعالهم أمام مواطنين يمارسون دورهم بطريقة غير مباشرة من خلال تنافس ممثليهم المنتخبين وتعاونهم
وقد سجل العقد الأخير من القرن العشرين ما بدا وكأنه انتصار نهائي للديموقراطية. وآمن الكثيرون بأن الإنسانية عادت أخيرا إلى رشدها وتخلصت من كابوس الأيديولوجيات الشمولية التي سحقت الإنسان وحقوقه وكرامته، مرة باسم التفوق العرقي ومرة باسم مصلحة المجموع.
غير أن هذه القراءة تنطوي على قدر كبير من السذاجة السياسية بالقدر نفسه الذي تنطوي فيه على تزييف للتاريخ. فالتاريخ الموضوعي هو محاولة لوصف فترة ما كما كانت، وليس مجرد اقتحامها من أجل منح القداسة لفكرة هي أيضا في نظر البعض (أيديولوجية) خدمت مصالح البعض وأضرت بمصالح البعض الآخر، وحققت السعادة للبعض وجلبت النعاسة لآخرين. التاريخ الصحيح يجب أن يقرأ بمنطقه الخاص وفي سياقه الخاص بعيدا عن لي عنقه لتسوغ محاولات فرض الهيمنة من خلال نظام واحد يفرض على العالم دون مراعاة للظروف الذاتية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لكل مجتمع على حدة.
ولعل ما يجري الآن من تبشير بهذا النظام الوحيد يذكرنا بذلك التفاؤل الذي ساد العالم عندما غزت المسيحية أوروبا وعالم البحر المتوسط في القرن الرابع الميلادي. لكن المسيحية لم تكن بالطبع استاتيكية، فقد استمرت في التطور إلى مذاهب وفرق تأثرت بدورها بالجغرافيا وبثقافات الأمكنة التي ضربت جذورها فيها. ولعلنا نتذكر تلك المقولة الشهيرة: “إن المسيحية عندما دخلت روما لم تتمسح روما وإنما ترومت المسيحية”. وهكذا تحولت الكنيسة التي أسسها القديس بطرس إلى منظمة روحية وهيراركية أدينت بمسؤوليتها عن فترات طويلة من العنف والتعصب الأعمى وعصور الإظلام التي لفت أوروبا. ولم تجعل المسيحية العالم أكثر أمنا ، بل إنها لم تجعله ، في الممارسة ، أكثر أخلاقية ، لكنها جعلته أكثر تعقيدا . وهكذا فإن الديموقراطية، التي تكتسح العالم اليوم كما فعلت المسيحية ذات يوم، ربما تفعل الشيء نفسه أيضا وهذا باختصار لأنها تتلون بألوان البيئة، وتضفي عليها شعارات خارجة عن فلسفتها، وممارسات متناقضة مع أهدافها. وهي بإيجاز ( سُكر مُر الطًعم) أن أردنا التشبيه.
والواقع أن سقوط الشيوعية بسبب ضغوط داخلية لا يعني أبدا أن الديموقراطية الغربية قادرة على الاستمرار على المدى البعيد في تلبية حاجات الناس. كما أن الوفاة الطبيعية للماركسية في شرق أوروبا ليست ضمانة لقطع دابر النظم الاستبدادية، أو ظهور بعض منها أكثر بطشا وترويعا تنتظرنا هنا وهناك في أرجاء عالمنا العولمي، بل إنها قد تضفي علي نفسها شعارات تتدثر برداء اسمه الديمقراطية أيضا. وقد أظهر لنا التاريخ مرة بعد أخرى أنه ليس هناك من انتصار نهائي للمنطق البشري، سواء كان ذلك تحت اسم المسيحية، أو التنوير، أو الديموقراطية، أو أية أيديولوجية أخرى. فكثيرا ما تتنوع ممارسة هذه الأيدلوجيات ليصل بعضها إلى التناقض من داخلها، كما يصف بعض المسيحيين اليوم مسيحيين آخرين بالهرطقة.
لذا فإن الاعتقاد بأن الديموقراطية قد حققت انتصارها النهائي وأنها ستبقى حتى “نهاية التاريخ” هو وهم ساذج. وحقيقة الأمر أن هؤلاء الذين يستشهدون بأقوال ألكسيس دي توكوفيل عن حتمية الديموقراطية عليهم أن يتذكروا تحذير توكوفيل نفسه من أن الحكم المطلق: “ينبغي أن نخاف منه على نحو خاص في العصور الديموقراطية”، لأنه يتغذى على رغبة ألذات في الاستحواذ وعلى الأمن الشخصي الذي تعززه المساواة.
أثينا أم إسبرطة ؟
في العام 510 أزيح هيباس بن بيزيستراتوس عن السلطة في أثينا وحل محله كليسثينيز. وأقنع الأخير المواطنين الأثينيين بفكرة الديموقراطية ، التي تعني حكم الشعب . وفي ظل الديموقراطية، عرفت أثينا ازدهارا ليس له حدود. ودانت لها القيادة على المدن – الدول اليونانية الأخرى حتى العام 431 ق. م ، عندما جرها بيركليس – قائدها في عصرها الذهبي – إلى الحرب البلوبونيزية لتلقى هزيمتها على يد إسبرطة . وكانت إسبرطة مدينة – دولة استبدادية عسكرت المجتمع وجعلت المواطنين ملكا للدولة. والحقيقة أنه بين الانتصار لهذين النموذجين (أثينا وإسبرطة، الديموقراطية والدكتاتورية، التعددية والاستبداد) تراوحت مواقف المفكرين ورجال السياسة على امتداد التاريخ وحتى عصرنا الراهن.
ويعلمنا التاريخ أنه تحديدا في مثل هذه العصور المزدهرة نحتاج إلى أن نحافظ على الإحساس بالمأساة، حتى لو بدا ذلك غير ضروري. ففي القرن الثاني قبل الميلاد، رأى المؤرخ الإغريقي بوليبيوس في ما نعتبره الآن العصـر الذهبي لأثينا بداية الاضمحلال. أما المؤرخ ثوسيديدس فقد رأى أن الحياة الآمنة والمريحة التي تمتع بها الأثينيين فـي ظل بيركليس قد أعمتهم عن القوى الخفية في الطبيعة الإنسانية التي أصبحت تدريجيا سبب دمارهم في الحرب البلوبونيزية. ويقول الرئيس الأمريكي الرابع جيمس ماديسون: “لو كان كل مواطن أثيني سقراط، فإن كل تجمع الأثينيين سيبقى غوغائيا”. ويقـول توماس بين: “إن المجتمع وليد رغباتنـا، لكن الحكومة وليدة شرنا”. وكانت فلسفة توماس هوبز، “الفجة” و”الرجعية”، التي وضعت الأمن في مرتبة أعلى من الحرية في نظام الاستبداد المستنير، هي التي استمد منها مؤسسو الولايات المتحدة سندهم الفلسفي. ويبين بول راهي Paul A. Rahe ، أستاذ التاريخ في جامعة تولسا Tulsa ، في سفره الضخـم ذي الأجــزاء الثلاثة الجمهوريات القديمة والمعاصرة Ancient and Modern Republics (1992) كيف أن مؤسسي أمريكا رفضوا جزئيا الجمهوريات القديمة ، التي اعتمدت على الفضيلة ، وفضلوا عليها نظاما نفعيا Utilitarian يوجـه أنانية الإنسان وغرائزه المادية نحو غايات حميدة . وكما قال بنجامين فرانكلين في دفاع واضح عن قدرية هوبز ، فإن الإنسان “حيوان صانع للأدوات”.
أما في تاريخنا الإسلامي فلن نعدم اليوم مؤرخين ينظرون إلى (إصلاحات) عمر بن عبد العزيز ( المساواتية) علي أنها المسمار الأول الذي ضرب في نعش حكم الدولة الأموية .
الديموقراطية هي ما نفعله بها
جوهر الديموقراطية أن المواطنين المتساوين في الحقوق هم مصدر شرعية الحكم ، حيث تحكم الأغلبية من خلال ممثلين وصلوا إلى سدة الحكم عبر انتخابات عامة حرة وسرية تجرى بصورة دورية ويضعوا قوانين نابعة من رؤيتهم للتطبيق في المجتمع ، ومتى ما بدا للمجتمع أن هذه القوانين تحتاج إلى تغيير غيرت بطرق متعارف عليها . وتقوم الديموقراطية على مبدأ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وعلى دستور فوق السلطة يقر بتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات ، وقدسية القضاء ، ويحظر إلغاء النظام الديموقراطي نفـسه . والديموقراطية تكفل حرية التعبير ، وحقوق الإنسان وكرامته ، وحرية التنظيم ، وتكوين الأحزاب ، والنقابات ، والجمعيات ، وحقها في المنافسة من أجل الوصول إلى السلطة . وبكلمات أخرى ، فإن الديموقراطية هي ذلك الترتيب المنظم الذي يهدف إلى الوصول إلى القرارات السياسية ، والذي يمكن للأفراد من خلاله اكتساب السلطة والحصول علي الأصوات عن طريق التنافس .
غير أن الديموقراطية تختلف عن الليبرالية . فجوهر الليبرالية هو قدسية الفرد والحرية الفردية . ومن هنا جاء حرصها على تقييد السلطات الممنوحة لأي حاكم أو سلطة منتخبة . وبما أنه من المتفق عليه أن السلطة ، بطبيعتها ، تنزع إلى الاستبداد وقهر الفرد ، فقد وضعت الليبرالية الكثير من الاحتياطيات والتدابير التي تحول دون استخدام السلطة التفويض الممنوح لها في الإضرار بحرية الأفراد سواء في التعبير أو العيش أو العمل . والحريات والحقوق في النظام الليبرالي أوسع بكثير من تلك التي يتطلبها النظام الديموقراطي .
وقد أدرك مؤسسو الولايات المتحدة هذا التناقض عند وضعهم للدستور الأمريكي . ودفعهم الخوف من وصول دكتاتور إلى السلطة من خلال انتخابات ديموقراطية إلى وضع نظام معقد للحكم يقلل إلى أبعد الحدود من الصلاحيات الممنوحة للحاكم ، ويفرض عليه أشكالا رقابية عديدة .
وكان جنرال الجيش المتقاعد ديف بالمر قد قال في العام 1794 : “كتب الدستور الأمريكي خمسة وخمسون رجلا – وشبح” : أمريكا وجيشها ومولد الأمة America, It’s Army, and the Birth of the Nation (1994) . أما الشبح الذي كان هناك فهو أوليفر كرومويل ، الفارس النموذجي الذي شيد ، في سياق دفاعه عن البرلمان ضد الملكية في بريطانيا ، نظاما استبداديا أسوأ من كل الأنظمة الاستبدادية الأخرى التي عرفت في ظل الملوك الإنجليز . فقد تخوف مؤسسو أمريكا من العامة ألسيئي التعليم الذين يمكن أن يغرر بهم كرومويل آخر ، ومن نظام يمكن أن يسمح بحيازة شخص واحد لسلطة زائدة عن الحد إلى نظام يتصف بمجموعة من آليات ضبط هذه السلطة . ولهذا السبب شيدوا نظاما صفى من جهة نزوات وجموح الجماهير من خلال هيئة منتخبة ، ومن جهة أخرى سعى إلى تشتيت السلطة من خلال تقسيم الحكومة إلى ثلاثة فروع [1] . أي أن ( الحكومة المقيدة) هي الحكومة الدستورية ، أو ما يسمي اليوم ( بدولة القانون) .
كان ذلك في نهاية القرن الثامن عشر ، وفي أول دستور مكتوب[2] . ولم تكن تخوفاتهم مبالغا فيها ، فبعد سنوات طويلة شهدت أوربا حكما دكتاتوريا وصل إلى السلطة من خلال صناديق الانتخاب . فقد كان الدستور الألماني الذي اخترقه هتلر للوصول إلى السلطة يحتوي على أفضل النصوص القانونية التي عرفت حتى ذلك الوقت .
والحقيقة أن الديموقراطية الناجحة في أي مجتمع تتطلب وصول هذا المجتمع إلى درجة معينة من التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي يكفل نجاحها . بينما قد تؤدي الديموقراطية في غياب هذا التطور إلى وثوب أي مغامر غوغائي إلى السلطة ليقود مجتمعه إلى أوخم العواقب . وهنا ستكون الديموقراطية ليس فقط محفوفة بالمخاطر، بل وكارثـة أيضا .
ويشير كابلان إلى أن الديموقراطية لا تجعل المجتمعات دائما أكثر تحضرا ، لكنها تفضح دوما وبلا رحمة صحة المجتمعات التي تعمل فيها . فكما جاءت الديموقراطية بكرومويل ، فإنها أوصلت أيضا كل من هتلر وموسوليني إلى السلطة . وقادت الديموقراطية في رواندا إلى مذابح يندى لها جبين البشرية . وفي قلب أوروبا الديموقراطية الليبرالية المتحضرة ، أدت الديموقراطية في جمهوريات يوغوسلافيا السابقة إلى أبشـع جرائم التطهير العرقي التي عرفتها البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
والعقد الأخير من القرن العشرين يحفل بنتائج متباينة لعمليات إدخال الديموقراطية قسرا إلى بلدان شرق ووسط أوروبا والعالم الثالث . ففي أوروبا الشرقية أدًت الديموقراطية في يوغوسلافيا إلى تمزيق أوصالها ، بينما حافظت رومانيا ذات السجل السيئ في مجال الديموقراطية على تكاملها الإقليمي . وبينما كان الانفصال هادئا بين التشيك والسلوفاك ، كان مروعًا بين الصرب والكروات .
وفي أفريقيا جنوب الصحراء ، قادت الانتخابات في سيراليون والكونغو إلـى الفوضى . وفي مالي ، التي أشرف على تجربتها الديموقراطية مراقبون أفارقة ، قاطعت المعارضـة الانتخابات الأخيرة التي صاحبتها عمليات قتل وشغب . وكانت نسبة المشاركين في الانتخابات ، من بين الذين يحق لهم التصويت ، أقل من عشرين في المائة .
وتتمتع أمريكا اللاتينية ذاتها ، التي تعتبر أكثر الساحات الديموقراطية نجاحا في العالم الثالث ، بسجل مظلم في هذا الصدد . فبينما احتفظت فنزويلا بحكومات مدنية منتخبة منذ العام 1959 ، فإن شيلي كانت فعليا طوال عقدي السبعينيات والثمانينيات تحت حكم عسكري استبدادي . لكن فنزويلا مجتمع فـي محنة ، حيث تشهد محاولات مستمرة من قبل العسكر للإطاحة بالحكومة ، وحيث الجريمة متفشية ، والنخبة تستثمر معظم مدخراتها خارج البلاد ، وحيث مخاطر الائتمان تجيء في المرتبة الثالثة عالميا بعد روسيا والمكسيك . أما شيلي فقد أصبحت مجتمعا مستقرا عماده الطبقة الوسطى تقارن معدلات النمو فيه بمثيلاتها في جزر الباسيفيكي المزدهرة . بينما تحفل كولومبيا الديموقراطية بحمامات الدم ، ويحاول الكثير من أبناء الطبقة الوسطى مغادرة البلاد . ثم هناك البيرو ، حيث تم تحقيق درجة من درجات الاستقرار ، رغم كل سوءات النظام الحالي ، من خلال التراجع عن الديموقراطية إلى نظام شبه استبدادي . ويسود القلق سائر أنحاء أمريكا اللاتينية من أنه بدون توسيع الطبقة الوسطى وتحديث المؤسسات فإن موجة الديموقراطية لن تتعزز . بل وفي أمة ديموقراطية فعلا مثل الأرجنتين ، أصاب الوهن المؤسسات ، وأخذت معدلات البطالة تتصاعد ، والفساد المالي والسياسي ينتشر . وتواجه الديموقراطية في البرازيل وبلدان أخرى ردود أفعال سلبية وسخطا من ملايين السكان ، المتمدينين الجدد ، السيئي التعليم ، الذين يقطنون أحياء الفقراء المكتظة ، الذين لم يروا مكاسب ملموسة من الأنظمة البرلمانية الغربية . ويعتبر سخطهم سببا للزيادة المتواصلة لمعدلات الجريمة في العديد من مدن أمريكا اللاتينية في العقد الأخير .
ولأن الديموقراطية الناجحة تتطلب وجود طبقة وسطى ومؤسسات مدنية ، فإن روسيا الديموقراطية تبقى – فضلا عن كل ما ورثته من النظام السوفييتي – عنيفة ، وغير مستقرة وشديدة الفقر رغم أن نسبة الأمية فيها لا تتعدى الواحد في المائة . بينما نجحت الصين في ظل نظامها الاستبدادي في تحقيق نجاحات كبرى في نوعية حياة مئات الملايين من سكانها . وكانت الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية في ظل الحكم الديموقراطي في ألبانيا وبلغاريا ، حيث تقاليد الحياة البرجوازية قبـل الشيوعية كانت ضعيفة أو غير موجودة (مثلما الحال في الصين) ، على النقيض من بلدان ديموقراطية أكثر نجاحا مثل المجر والجمهورية التشيكية ، اللتين تمتلكان بورجوازيتين أكثر رسوخا .
والدرس المستفاد هنا ليس أن الدكتاتورية جيدة والديموقراطية سيئة ، بل إن الديموقراطية تبزغ بنجاح فقط عندما تكون ذروة لإنجازات اقتصادية واجتماعية أخرى . وفي تقديمه لكتابه الديموقراطية في أمريكا Democracy in America ، بين توكوفيل كيف أن الديموقراطية في الغرب قد ارتقت كنتاج عضوي للتطور . فالمجتمع الأوروبي قد وصـل إلى مستوى من التعقيد والتقدم تعين معه على الأرستقراطية ، حتى لا تثقل على كاهلها ، أن تمنح قدرا من المساواة للمواطنين الآخرين وأن تخصص لهم بعض المسؤوليات : كان التقسيم الهيكلي للسكان إلى جماعات مصالح متنافسة سلميا ضروريا لتجنب كل من الطغيان والفوضى أو الحروب الأهلية الطاحنة .
والحقيقة أن نظام التعددية الحزبية ، في مجتمع لم يصل إلى مستوى التطور الذي وصفه توكوفيل ، سيؤدي فقط إلى تعميق ومأسسة التقسيمات العرقية والإقليمية القائمة . ونستشهد هنا بالرئيس الأوغندي يوري موسوفيني، وهو حاكم مطلق مستنير حققت بلاده معدلات نمو اقتصادي سنوي ممتازة – 10 في المائة مؤخرا – رغم النزاعات القبلية في شمالي البلاد ، حيث يقول : “إنني واحد من هؤلاء الناس الذين لا يؤمنون بالديموقراطية ذات التعددية الحزبية . والواقع أنني أعارضها تماما طالما الأمر يتعلق بأفريقيا اليوم … وإذا كون أحدهم نظام التعددية الحزبية في أوغندا ، فإن أي حزب لن يمكنه كسب الانتخابات إلا إذا وجد طريقة لإشاعة الانقسام بين الأربعة وتسعين فـي المائة من الناخبين (وهي نسبة الفلاحين) . وهنا تكمن المشكلة الرئيسية : حيث تصبح القبيلة ، أو الدين ، أو المذهب ، أو الطائفة ، أو الإقليمية قاعدة للتحزب العنيف” . وكان جيش موسوفيني قد استولى على العاصمة الأوغندية كمبالا دون نهب متجر واحد ، وأجل موسوفيني الانتخابات وارتأى أن يجريها بطريقة تضمن له الفوز .
وإذا كانت بلدان شرق أوروبا ، التي تحررت من الشيوعية العام 1989 ، تمتلك بدرجات متفاوتة الشروط المسبقة الاجتماعية والاقتصادية لكل من الديموقراطية والحياة الصناعية المتطورة : التقاليد البرجوازية ، والتعرض للتنوير الغربي ، ومعدلات تعليم عالية ، ومعدلات مواليد منخفضة ، الخ ، فإن محاولات ما بعد الحرب الباردة لترسيخ الديموقراطية فيها تبدو معقولة . لكن ليس من المعقول أن يصوب مسدس إلى رأس شعوب البلدان النامية ويقال لها : “تصرفوا وكأنكم قد تواصلتم مع التنوير الغربي بنفس درجة بولندا والجمهورية التشيكية . تصرفوا وكأن خمسة وتسعين في المائة من سكانكم يعرفون القراءة والكتابة . تصرفوا وكأنكم لا تعانون من نزاعات عرقية وإقليمية دموية” . فالدول لم تتشكل أبدا من خلال الانتخابات . لكنها تشكلت من خلال الجغرافيا والتاريخ ، ونماذج الاستقرار ، وصعود البرجوازية المتعلمة ، ووحدة المجتمع بمؤسساته وتماسكه ، والأمر المأساوي أنها تشكلت أيضا من خلال التطهير العرقي [3] .
فاليونان ، على سبيل المثال ، ديموقراطية مستقرة . ويعود هذا إلى أنها أقدمت في مطلع القرن على القيام ، بشكل معتدل نسبيا ، بعمليات تطهير عرقي – في صورة موجات من ترحيل لاجئين – أدت إلى خلق مجتمع ذي عرق واحد . ومع ذلك ، فقد احتاجت اليونان إلى عقود عدة من التنمية الاقتصادية ، لكي تلقي في نهاية المطاف بالانقلابات وراء ظهرها . وغالبا ما تضعف الديموقراطية الدول من خلال الحلول الوسط ، الحتمية غير الفعالة ، والحكومات الائتلافية الهشة في المجتمعات التي لم تعمل فيها المؤسسات البيروقراطية أبدا بصـورة جيدة أولا .
ولأن الديموقراطية لم تكون أبدا الدول ولم تقوها ابتداء ، فإن أنظمة التعددية الحزبية تناسب على أكمل وجه الأمم التي تمتلك بالفعل بيروقراطيات كفؤة وطبقة وسطى تدفع ضرائب الدخل ، وحيث تم بالفعل حل القضايا الرئيسية مثل الحدود وتقاسم السلطة ، وهو ما يمنح السياسيين الحرية في التجادل حول الموازنات والقضايا الثانوية الأخرى .
والواقع أن الاستقرار الاجتماعي ينبع من ترسيخ مكانة الطبقة الوسطى . كما أن الأنظمة الاستبدادية ، بما في ذلك الملكيات وليس الديموقراطية ، هي التي خلقت الطبقة الوسطى ، التي قامت ، فور وصولها إلى حجم معين وإلى الثقة بذاتها ، بالثورة على الطغاة نفسهم الذين أسهموا في خلقها . ويتكرر هذا النموذج اليوم في جزر الباسيفيكي والمخروط الجنوبـي لأمريكا اللاتينية ، لكن ليس في أجزاء أمريكا اللاتينية الأخرى ، ولا في جنوب آسيا ، ولا في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ولا في معظم أنحاء عالمنا العربي .
لكن الخيار في كثير من الأماكن هو بين الطغاة السيئين والطغاة الأفضل قليلا . ومن المرجح أن تتألف الحكومة الديموقراطية من سياسيين فاسدين ومتخاصمين وغير أكفاء لم يحظ دورهم الضعيف أبدا بقاعدة دستورية أولا : تتطلب البيروقراطية الحديثة بشكل عام معدلات مرتفعة لمعرفة القراءة والكتابة عبر أجيال عدة .
أما الخياران الآخران فهما الفوضى الديموقراطية والطغيان العسكري . (إن الفوضى والطغيان يرتبطان بالطبع على نحو وثيق : لأن السلطة والطغيان يزدريان الفراغ ، ويقود كل منهما بالضرورة إلى الآخر . فذات يوم من عام 1996 كانت العاصمة الأفغانية كابول لا يحكمها أحد : وفي اليوم التالي كانت تحكمها حركة طالبان المتطرفة) .
الديموقراطية العربية
ربما يبدو التعبير نفسه مثيرا للفكاهة . فالأرض العربية تبدو وكأنها “تخاصم” الديموقراطية ، والعالم العربي من أقصاه إلى أقصاه يبدو وكأنه يعاني من حالة جـوع “مرضي” للديموقراطية . الكل يطالب بها ، والكل يحكم باسمها ، والكثيرون يقمعون تحت رايتها ، لكن لا أحد يدري أين هي ، وماذا هي .
وقد رجعت أثناء إعدادي لهذه الورقة إلى عشرات الندوات العربية المنشورة أبحاثها حول الديمقراطية . وبدا الأمر لي – دون مبالغة – وكأن مجموعة من العميان يصفون الفيل ، كل يصفـه حيث يتحسسه . وعلى سبيل المثال ، دعا منتدى الفكر والحوار في المغرب ( الرباط) في نوفمبر 1980 إلى ندوة “إشكالية الديمقراطية في العالم العربي” ، وصدر ملخص لمعظم أبحاثها تحت عنوان التجارب الديمقراطية في الوطن العربي في بيروت العام 1981 . ويقول عنها خلدون النقيب [4]: “تردد في هذه الندوة الكثير من المفاهيم الخاطئة عن ما هي الديمقراطية التي تصلح للمجتمع العربي ؟ وواضح – كما يقول الكاتب – أن تلك الندوة لم تخرج إلا بتبادل للآراء حول مفاهيم غامضة لمؤسسات وأحزاب ساهمت بطريقة أو بأخرى في ضياع المكاسب الديموقراطية النسبية … أما أقسي ضربة (للديموقراطية) ! فقد جاءت علي يد العسكر في أغلب البلدان العربية” . [5]
ومن الوقائع المهمة ذات الدلالة في هذا الصدد ما ذكره الأستاذ محمد حسنين هيكل عن اجتماعه إلى الرئيس المصري الراحل أنور السادات ونائبه حسين الشافعي ليلة 13 مايو 1971 . وكان الرئيس السادات يستعد لتسجيل خطاب متلفز إلى الأمة يشرح فيها خلافه مع ما سمي لاحقا بمراكز القوى . واقترح السادات عليهما أن يدور خطابه حول منع مراكز القوى له من التفاوض مع وزير الخارجية الأسبق وليم روجرز ، فقال له هيكل : “لا يهم إن كانوا قد منعوك أو يمنعوك من التفاوض مع وليم روجرز . إن هناك قضية أخرى تسبق غيرها من القضايا الأخرى في ضمير كل الناس ، وهي قضية الديموقراطية . هذه هي النقطة التي أرى أن تركز عليها خطابك الآن” . وقد اقتنع الرئيس ، كما قال هيكل ، بأن لا يشير إلى حكاية روجرز ، ويركز خطابه بالكامل على الديموقراطية [6].
وقد كان حديث السادات عن الديموقراطية ، وسيادة القانون ، ورفع حالة الطوارئ ، وعن هدمه للمعتقلات ، ومنعه لزوار الفجر ، هو الباب الملكي الذي أوصله إلى قلوب المصريين ، رغم أنه سيقوم هو نفسه بعد عقد واحد بوضع كل رموز القوى السياسية في السجن لأنهم ببساطة اختلفوا معه .
والحقيقة إنه على مدى قرنين من الزمان ، حاول العرب الاستفاقة من غفوتهم ، ووقف مسيرتهم التراجعية أمام الحضارات الأخرى ، وخلق شروط نهضتهم . ومنذ أن اصطدمت المجتمعات العربية مباشرة بالحضارة الغربية ، مع وصول الحملة الفرنسية إلى مصر في العام 1798 ، شهدت هذه المجتمعات تغييرات كثيرة على أمل اللحاق بركب العصر دون فقدان الهوية الثقافية أو القيم الدينية والأخلاقية . وشهد القرن المنصرم حوارات فكرية واسعة ، وحاول المصلحون الدينيون تطوير أفكارهم ليثبتوا أن الإسلام قادر على التحول إلى رافعة للنهضة تتناسب مع متطلبات الحداثة ، بينما حاول منظرو الحركة القومية بعث الروح القومية من خلال التوفيق بين العلمانية الغربية ومفردات التراث العربي .
لكن كل هذه الجهود باءت بالفشل الذريع . ولم يكتف العرب بعجزهم عن اللحاق بالحضارة الغربية ، بل وفشلوا أيضا في طرق أبواب الحداثة . وسياسيا ، ازدادت الأنظمة العربية قمعا في العقود الأخيرة مقارنة بالأنظمة التي كنا نعتبرها أنظمة استبدادية ألعوبة في يد المستعمرين . واقتصاديا تتجه مستويات المعيشة إلى التراجع في معظم البلدان العربية ، حتى في البلدان النفطية الغنية .
ويضاف إلى ذلك أن البلدان العربية ليست متساوية أو موحدة المواقف تجاه الدستور أو الممارسة الديمقراطية . وهي كقوس قزح متعدد الألوان . ففي بلدان الثقل العربي ، مثل مصر والعراق والمغرب وتونس ، كانت الحركة الدستورية قديمة ، بينما هي حديثة في بعض البلدان الأخرى ، أي أنها ظهرت بعيد الاستقلال .
ويعتبر أول دستور عربي مكتوب هو دستور مصر 1866[7] ، الذي تم بمقتضاه إنشاء أول مجلس نيابي مصري مؤلف من 57 عضوا منتخبا ، لكن مهمة هذا المجلس كانت استشارية . أما الجيل الثاني من الدساتير العربية فقد ظهرت بعد الحرب العالمية الأولي (مصر 1923) ، (العراق 1925) ، (لبنان 1926) و(سوريا 1933) . وبعد الحرب العالمية الثانية حصل العديد من الدول العربية علي استقلالها فوضعت الدساتير الحديثة[8].
غير أن “قرن الدساتير العربية” هذا شهد أيضا الكثير من المد والجزر، والإلغاء والتعديل ، حسب أهواء النخب الحاكمة . وقد كان ما يطلق عليه العصر الليبرالي العربي في بعض الدول العربية ، بين انتهاء سنوات الحرب العالمية الأولي وحتى منتصف القرن (عندما بدأت الثورات والانقلابات) ، عصرا ليبراليا في شكله الخارجي فقط . وليس أدل على ذلك من أنه في الفترة من 1923 حتى سنة 1952 في مصر لم يحكم حزب الأغلبية (حزب الوفد) إلا سبع سنوات متقطعة . أما في العراق فقد استولت النخبة الحاكمة علي مقدرات العمل السياسي أيضا تحت اسم الدستور الذي عدل أكثر من مرة . ويعزو البعض تقلب الشمولية في الحكم في هذه الفترة إلى وجود الهيمنة البريطانية في المشرق . لكن اللافت هنا أن هذه القوة الاستعمارية تدخلت مرتين من أجل (العودة إلى الدستور) ! ، مرة بعد انقلاب رشيد عالي الكيلاني في العراق في مايو 1941 والعودة الوصي عبد الإله – الذي كان قد هرب إلى القدس[9]– إلى الحكم من جديد ، ومرة أخرى في فبراير 1942 عندما أجبرت ملك مصر فاروق على تكليف حزب الوفد بتشكيل الحكومة المصرية .
وفي إطار هذا التراكم التاريخي ، تأتي خصوصية طرح الديموقراطية في الواقع العربي . ويرى الجابري[10] أن هذه العملية ( الديموقراطية) تعد بمثابة : “إحداث انقلاب تاريخي في الوضع العربي بمختلف مظاهره” ، ليس كما هو الآن وحسب ، بل كما كان خلال جميع المراحل التاريخية السابقة واللاحقة . لقد تميز وضع الدولة في الماضي كما في الحاضر بنفي(الشريك) عن الحاكم ، أي الإيمان بالزعامة ، وتأليه القيادة ، هذا في حين أن الديموقراطية في جوهرها وآليات ممارستها ، تدور أساسا حول فكرة المشاركة في الحكم أو بتعبير الجابري (الشريك) .[11]
وكانت فكرة الديمقراطية بمعناها الحديث ، مثل الكثير من الأشياء التي جاءتنا من الغرب ، فكرة “مستوردة” ، أي أنها لم تكن وليدة تطور مستقل للظروف الذاتية والموضوعية في كل من هذه البلدان . وقد حاول العرب استيعاب هذا المفهوم الحداثي ، ومن ثم القيام بمحاكاته . وكانت التجربة ، في فترة ما بين الحربين العظميين ، مخيبة للآمال في بلدان الثقل العربي ، خاصة في مصر . ويلخص وجهة نظر غالبية الجمهور العربي في تلك الفترة الهامة من تاريخ الليبرالية العربية والعمل بالدساتير ذلك الحماس الذي استقبلت به من أطاحوا بها . لذلك عندما جاء العسكر فوق الدبابات (للإنقاذ) واستولوا علي الحكم في أكثر من بلد عربي لم يذرف ( المثقفون العرب) دمعة واحدة علي الديموقراطية المهدرة ، بل صفق لتصفيتها الخاصة من الناس قبل العامة ، ولا لوم هنا علي ديموقراطية مهدورة ، بل على شكل مسخ قامت النخب الحاكمة بزيادة مسخه ، ووزعت فيما بينها الامتيازات و استهواها الفساد السياسي .
وقد قامت تجربة الأحزاب العربية علي نبذ الديموقراطية واحتقارها ، سواء كانت هذه الأحزاب (قومية) ، أو (يسارية) ( دينية) . فبنية الحزب العربي هي في جوهرها بنية تسلطية تسحق الرأي المخالف ، وهي سلطوية التصور المطلق ، وتعتبر الفرد مجرد آلة للتنفيذ لا غير ، عليه أن يطيع (الرئيس) و( القائد) و(الزعيم) ، ويعظمه إلى درجة التقديس ، بل وحتى يلتمس لديه التظلم والدعاء . لذلك أصبحت قيمة الإنسان العربي قيمة صفرية لدى العديد من الأنظمة العربية التي حكمتها الأحزاب بعد ذلك[12] . وحتى عندما ننظر إلى السياق الذي قدم خلاله أعضاء هذه الأحزاب تضحيات غير قليلة – التعـرض للتشريد ، السجن ، الاعتقال ، التعذيب والقتل – قبل وبعد وصول أحزابهم إلى السلطة ، فسنجده مع الأسف تكريسا لمدرسة غير ديمقراطية إلا في الشكل ، وسنجد أن معظم هؤلاء قدموا تضحياتهم دون هدف أو وظيفة ، بل ودون رادع أخلاقي أو سياسي أيضا.
والأمر المأساوي أن الحكم على الإنسان العربي الضحية مطلق ، فلا يهم أن يموت في الحروب لسبب لا يعرفه ، ولا يهم أن يموت في المعتقلات ، ولا يهم أيضا – وهذا هو الأفدح – أن يموت محاصرا في بلده لأن ( القائد) يحتفل بعيد ميلاده ! والمحصلة النهائية أن الواقع العربي يتنازعه فكران ، فكر سائد وهو الأقوى ، و فكر معارض مهان مغلوب ومهزوم ومدان .
ويكتب صحفي مجرب حـول رأى المعارضة العربية في الديمقراطية يقول : “تجربتي مع المعارضة العربية أن المصيبة في المعارضين ( أنهم) أشد فتكا بالذين يعارضونهم ، ولا يعرفون من الديمقراطية غير اسمها ، فهم يتباكون عليها في الوطن ، ويخونونها عند أول احتكاك لهم برأي معارض” . [13]
ويؤكد هذا المنحي فاضل الربيعي بقوله : “إن مبادئ التنظيم الحزبي (العربي) قد تقلصت إلى مبدأ وحيد هو خضوع الأدنى للأعلى ، فصار شخص الأمين العام أعلي هيئة في الحزب ، وغدا فوق أي نقد وأي مساءلة ، كما غدا كل من تحته خاضعا لسطوته” . [14]
وبين السلطة المطلقة والديمقراطية المشوهة ، نجد أنفسنا في موقف لا نحسد عليه ، فلا تلك السلطة التي بدأت ( ثورية) قدمت الحد الأدنى من التنمية ، ولا الممارسات التي سميت ديمقراطية في المجتمع ككل أو في الأحزاب قدمت الحد الأدنى من الممارسة الديمقراطية . والأمر المؤكد أن الأنظمة الديمقراطية أو الشبيهة بها أكثر الأنظمة سهولة في الاختراق ، لقلب قيم الديمقراطية المتعارف عليها إلى نقيضها .
ويلخص د . محمد جابر الأنصاري في كتابه الأخير “مساءلة الهزيمة” مسيرة العرب في القرن العشرين على النحو التالي : ” … قرن متقلب تصورنا من بداياته إلى منتصفه أنه سيكون زمن الخلاص ، فتحول في عقوده الأخيرة إلى محنة لا تقل عن أشد عصور تاريخنا وطأة … وربما كان القرن العشرون في التحليل النهائي هو قرن الارتطام الحقيقي للأمة بحقائق ووقائع العصر الحديث في أبعاده المختلفة” . [15]
الديمقراطية و الدين
من نافلة القول إن الإسلام كدين وحضارة ، يمثل المصدر الأول والأكثر عمقا لتراثنا الفكري و الثقافي ولأغلب نسيجنا الاجتماعي ونظمنا السياسية. وفي هذا السياق ، تطرح موضوعات مثل موقف الإسلام من الدولة – الوطن الحديثة ، وموقف الإسلام من الديموقراطية وغيرها، وأطروحات موجة (الصحوة الإسلامية) و(الإحياء الإسلامي) و(الإصلاح الإسلامي) و(الإسلام السياسي) . وذلك كتوجه يهدف إلى إصلاح الحياة العامة بجوانبها السياسية والاجتماعية من خلال تطبيق المبادئ الإسلامية في تلك الميادين ، و استخدام كافة أساليب الحركة والتنظيم لتغيير الواقع والحكم باسم الدين . ولا يمكن ، والأمر كذلك ، الحديث عن النخبة العربية والديمقراطية دون أخذ مسيرة و موقف شريحة سياسية اجتماعية تسعي نحـو الاشتراك في العمل السياسي آخذة بعين الاعتبار هذا المصدر كأساس . إلا أن الملاحظ من جهة أخرى أن تاريخ الفكر والثقافة العربية يعاني كما يقول المفكر العربي محمد أركون من قطيعتين مؤلمتين ، لا قطيعة واحدة ، الأولى قطيعة بدأت من القرن الثالث عشر الميلادي قطعت الفكر والثقافة العربية عن تاريخهما الخاص ، أي عن فترة التأسيس ثم الفترة الكلاسيكية الغنية والمبدعة من التراث العربي الإسلامي من جهة ، ومن جهة أخرى فان القطيعة الثانية حصلت بالقياس إلى انبثاق الحداثة وتوسعها في الغرب فتجاهل كثيرون تطور الفكر الغربي وعلاقته بمنجزات الغرب الحديث . لقد حاول العرب وبعض الشعوب المسلمة أن يتعرفوا علي الحداثة الأوروبية في القرن الممتد من منتصف القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين ، كما حاول بعضهم أن يستكشف التراث بطريقة تاريخية ولكنهم فعلوا ذلك بشكل جزئي ، كما درسوه باستخدام منهجيات التاريخانية الضيقة ، ووقعوا أسري موقفهم المعرفي .
لذلك يبقي البحث عن أسباب ضيق المفكر فيه في الذهنية العربية ، واتساع اللامفكر فيه ، هو الذي سيحدد ، ولو جزئيا ، ما الذي أوصل العرب والمسلمين إلى ما وصلوا إليه اليوم من ( تخلف) . وبمعني آخر ، ينبغي أن نقوم ببحث تاريخي دقيق كي نفهم سبب جمود واستمرار الأطر الاجتماعية المعرفية السلبية ، التي ظلت سائدة بصرف النظر عن الأشكال السياسية التي تأخذها الدولة في مجتمعاتنا اليوم . وقد سادت محاربة التفكير الحر إلى درجة إشاعة مقولة مغلوطة هي ( من تمنطق فقد تزندق) ! كما أصبح تقبل المؤروث ورفض التاويل والاجتهاد هو الأكثر قبولا .
ولعلنا نجد في التجربة الصينية ما يشير إلى ما يسعي اليه البعض من بحث عن تزاوج فعال بين الموروث والحداثي . فقد نقل لنا جوزيف لفنسون ملخصا رائعا عن تجربة الصين بقوله : “كانت الأفكار الجديدة في معظم التاريخ الصيني، لا تقبل إلا إذا ثبت أنها تتواءم مع التراث ، أما في الازمنة الحديثة ، فإن الموروث ، لكي يمكن الحفاض عليه ، يجب أن يقدم على أنه متوائم مع الأفكار الجديدة المقنعة بذاتها” .[16]
ولقد وجدنا أن الفكر العربي والإسلامي منذ النصف الثاني من القرن العشرين – إن لم تمتد جذوره قبل ذلك – في الكثير من المناطق الإسلامية يسعى حثيثا لتحقيق التزاوج بين فكرتين هما (الصحوة الدينية) و(الديموقرطة) . وهو مسعى يرمي إلى الحفاظ على (الهوية) وأيضا الولوج إلى (الحداثة) في آن معا . لكن تجليات هذا المسعى اختلفت باختلاف البيئة السياسية والاجتماعية ، ولم تجد حتى الآن تجليا صافيا ، كما في الحالة الصينية التي أشرنا إليها آنفا . لكنه يحاول بإصرار .
وفي البلاد الإسلامية ذات الثقل البشري والكثافة السكانية العالية ، تبدو القضية حادة أكثر . فبلدان مثل الجزائر وإيران ، على سبيل المثال لا الحصر ، تعاني من محاولة تفكيك هذه المعضلة وتركيبها من جديد . وكانت هذه القضية ، أي المزاوجة بين التراث والحداثة ، قد ظهرت في الفترة الأخيرة بشكل أكثر جلاء وإلحاحا ، وبقوتها التي نشهد ، بسبب الثورة الإيرانية في أواخر سبعينيات القرن العشرين . وكانت الثورة الايرانية واحدة من الانتفاضات الشعبية القائمة على استخدام الفكرة الدينية ضد التسلطية الحديثة ، والتي حاولت المزاوجة بين التراث و الشكل الديمقراطي الغربي[17] . وفي التسعينيات ظهرت حركة الإنقاذ في الجزائر، والتي أطيح بها في أعقاب انتصارها في انتخابات (ديموقراطية من الناحية الفنية) ، تحدت فيها جبهة التحرير الجزائرية ، التي تعتبر نفسها الامتداد الشرعي لفعل التحرير من فرنسا .
إن إحدى أهم القضايا الرئيسية والمركزية لتحديد المستقبل (السياسي) في أغلب المناطق العربية والإسلامية اليوم هي العلاقة بين قوى الإسلام السياسي وتطوير نظام ديمقراطي . وتختلف التجارب و تتنوع ممارساتها و نتائجها ، إلا أن لب القضية يتشابه، فالحكومات و القادة السياسيين يستجيبون إلى الرغبة الشعبية في الموافقة علي مشاركة جماهيرية أوسع في معظم الدول الإسلامية ، ومنها العربية . حدث هذا في إندونيسيا و تركيا وإيران وبعض دول ومناطق أخرى . ولكن تظل المعادلة الصعبة قائمة : ما هي حدود (الديمقراطي النسبي) ، وما هي حدود ( القطعي) الذي يرغب بعض الناشطين في الحركات الإسلامية السياسية أن يحققوه ؟ ففي الوقت الذي يعترف الفكر فيه أن الديمقراطية هي نسبية وليست قطعية ، تصبح المفارقة واضحة . فأي خطأ في المعادلة يطيح بأحد أركانها . وهو ما يتبدى بوضوح فكرا وممارسة في الأزمات المستمرة في المعادلة الإيرانية ، التي هي ربما أنضج التجارب حتى اليوم . أما استحكام الأزمة فيظهر بشكل أوضح في المحاولة الجزائرية والسودانية .
والحركة السياسية الإسلامية العربية تواجه من جهة أخرى موقفا صعبا ، فهي عديدة الاجتهادات بل ومتناقضة في الكثير من الأحيان . كما أن اجتهاداتها في العمل السياسي متناقضة بل وصارخة التناقض ، بعضها يتبنى التغيير بالعنف و استخدام القوة ، وبعضها الآخر يتبنى المعارضة السياسية السلمية . وفي بعض البيئات ، تتجه بعض جماعاتها لتبني الديموقراطية كحق خاص وحصري للرجال فقط ، وبعضها يشمل المواطن المسلم رجلا كان أو امرأة ، بل إن بعضها يعتبر الديمقراطية رجسا من عمل الشيطان ، وبدعة غربية وغريبة وبضاعة مستوردة !
نظرة تاريخية
لقد استمدت السلطة في المجتمعات العربية شرعيتها من عباءة الدين ، وقبلت ذلك الطبقة الوسطي ، وتولى الحكام من خلال (مشايخ) التاويل المقبول ، الذي يشرع حسب مصالح السلطان، وأصبح الخروج علي السلطة تقريبا خروجا عن الدين . وترافق مع ذلك تطور ظاهرة (سلطوية التصور) ، القائمة على فكرة تأليه الزعامة التي تتعالى على المؤسسات ، وتتجاوز الرقابة ، وتعلو على كل محاسبة . وقد أدى كل ذلك إلى إلصاق وجه سلبي بالثقافة العربية السياسية .
فمفاهيم مثل ضبط التنافس ، والتعاون ، والصراع السلمي والتحالف هي مفردات طرحت واستعملت في المجتمعات العرية الإسلامية فقط منذ منتصف القرن العشرين . وسوف تمتد إلى سنوات قادمة في القرن الحالي دون تحديد دقيق لها . والموضوع هو (السياسة و الإسلام) ، الذي كثيرا ما يوصف بأنه ( جمع المقدس والسياسي) . وفي عرف كل الحركات الإسلامية أن الإسلام (دين ودولة)، كما أن كل المدارس الإسلامية الفكرية ترى أن الإسلام طريق شامل للحياة . وفي الغالب قد يبدو الاختلاف على الشعارات قليلا ، لكن الاختلاف على التفاسير والممارسات هو المعضلة الحق .
في سنوات صعود الحضارة الإسلامية إبان الدولتين الأموية والعباسية ، كانت هناك مؤسسات دينية خارج (الدولة) وجدت وتطورت وأصبح لها نفوذ في الشؤون الدينية . وقد ظهـرت طبقة العلماء كجماعة لها نفوذ في المجتمع الإسلامي . وليس تطور مدارس الفقه وظهور الاجتهادات المختلفة في بعض التفاسير سوى دليل علي هذه (الاستقلالية) النسبية عن (الحكومة) أو ( الدولة) ، وسمة هامة من سمات التطور التاريخي لتجربة الحكم الإسلامي . وهذا لا يعني أنه كانت هناك (طبقة) دينية لها أعراف وتقاليد جامدة ، لكن كانت هناك اجتهادات لها استقلاليتها . وكانت الحركات الصوفية نموذجا لهذا الاستقلال ، ويضيف البعض الحركات الباطنية لهذا التصنيف . ولعلنا نذكر أن من أدخل جهاز الأزهر الشريف تحت عباءة الدولة هو محمد علي في القرن التاسع عشر ، وأن عبد الناصر لجأ إلى منبره عندما أراد تحقيق التعبئة القصوى للجماهير أثناء أزمة تأميم قناة السويس في العام 1956 . وهو مؤشر على حاجة السياسي للديني في البيئة العربية والإسلامية في مختلف الحقب التاريخية .!
وقد وجدت أشكال مختلفة للحكم في العالم الإسلامي في بداية العصر الحديث . فبعض الدول كان يحكم من قبل سلطان كان هو القائد الأعلى للإمبراطورية مثل سلاطين آل عثمان والإمبراطورية المغولية في الهند ، وفي إيران كان الحاكم هو الشاه . وفي أماكن أخرى كان الحاكم هو الإمام كما في اليمن . ومن اللافت أن التطور الهيكلي الأساسي في البلاد الإسلامية يشمل السياسة والدين معا . وقد تحقق من خلال إصلاحيين كبار في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ، منهم محمد علي في مصر ، ومصطفي أتاتورك في تركيا ، وعبد العزيز ابن سعود في الجزيرة العربية . حيث طور هؤلاء الإصلاحيون المؤسسات التقليدية القائمة و حدثوها يما يناسب العصر والمجتمع الذي يعيشون فيه ، وإن اختلفت سرعة التطوير و مداه ومساحته وأهدافه ، لكنها على اختلافها لم تمر دون مقاومة آنذاك . ولم تزل هذه المجتمعات تظهر بها جيوب صغيرة في الوقت الحالي تعبر عن هذه المقاومة .
وكان أول مصلح في العهد العثماني هو السلطان سليم الثالث ، الذي أطاحت به في العام 1807 قوى محافظة . وقاوم العلماء المحافظون في مصر ، في بعض الوقت ، إصلاح التعليم والإدارة ، بل وعارضوا لبس الملابس الإفرنجية ، كما قاوموا التغييرات في مناهج الأزهر الشريف . وفي النجف ، قاوم معظم رجال الدين فتح المدارس الحديثة والإصلاحات الأخرى في أواخر القرن التاسع عشر . وفي إيران ، عارض رجال الدين الإصلاحات نفسها ، وقاوموا بشدة الدعوة لارتداء الملابس الغربية في بدايات القرن العشرين . وكان هناك دائما توتر ما بين قوي التحديث في المجتمعات الإسلامية وقوى المحافظة ، بل إن بلدا مثل الكويت كانت القوى المحافظة فيه تعارض نشـر المجلات في العشرينيات ، وتعليم المرأة في الثلاثينيات ، و إنشاء دور السينما في الخمسينيات.
وبهذا المعني كان هناك توتر دائم بين قوى التحديث ، التي يطلق عليها البعض أحيانا صفة (الغربية) وفي أحيان أخرى صفة (العلمانية) ، وقوى تريد الاستحواذ على تمثيل (الإسلام) ، والتي كثيرا ما توصف بأنها (قبل حداثية) وأحيانا بأنها (مضادة للحداثة) .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تراثنا الفلسفي قد قام بإسناد وظيفة محددة للعقل وهي التبرير ، وليس النقد أو التساؤل . ومن ثم اختفي التناقض ، وضاعت الحركة بين الأضداد . وبدلا من تحليل المعطيات لعناصرها الأولية ، قام العقل بتبريرها مؤقتا ، لذا استمر التوتر بين قوى التقليد وقوى التحديث ، لأن جسرا من القبول و الفهم و احترام العقل لم يبن بين الطرفين .
التمثيل و الهضم
ظهرت في القرن العشرين حركات (صحوة) إسلامية جديدة ، تقدمت بمشروع جديد ومختلف . وعلى رأس هذه الجماعات جماعة الإخوان المسلمين في مصر ، التي أسسها المرحوم حسن البنا في مدينة الإسماعيلية على ضفاف قناة السويس في العام 1928 وسرعان ما انتقلت إلى القاهرة و انتشرت دعوتها في مصر وخارجها . والجماعة الثانية هي جماعة الإسلام ، التي أسسها في شبه القارة الهندية أبو الأعلى المودودي في العام 1941. وهاتان الجماعتان هما مثلان مبكران على محاولة التمثيل والهضم والتوافق النسبي بين ما هو تراثي و ما هو حديث . واللافت أن هذه الجماعات لم تلق تأييدا من القوى المحافظة في مجتمعاتها في بداية دعوتها ، بل استقطبت من قطاعات المجتمع القوى الأحدث ، مثل الطلاب والمعلمين وأصحاب المهن الحرة ، ومعظمهم حصل على تعليم حديث ، وعمل في القطاعات الحديثة في مجتمعاتهم . ولم تطالب هذه الجماعات بالرجوع إلى ما قبل الحداثة ، بل طالبت في برامجها ، بشكل عام ، بإقامة هياكل اجتماعية وسياسية تعمل بأصول إسلامية وبنية حديثة . وناقشت في برامجها موضوع الديمقراطية ، لكن دون حسم واضح ، وترواحت مواقفها منها بين اعتبارها معلمة وبين اعتبارها ملزمة بضوابط أخلاقية دون ضوابط مؤسسية .[18]
وفي النصف الأول من القرن العشرين كانت هذه الجماعات موجودة ولكنها ليست قوية . وفي الوقت الذي كانت معظم القوى السياسية الأخرى منخرطة فيه في مقاومة الوجود و النفوذ الأجنبيين ، في الحالتين في الهند ومصر كان الوجود بريطانيا ، سعت هذه الجماعات إلى ترسيخ وجودها التنظيمي بعيدا عن التيار الرئيسي للحركة الوطنية ، الذي كان مشغولا آنذاك بتنظيم المقاومة السلمية أو المسلحة للوجود الأجنبي ، من خلال تنظيم نشاطات (مختلفة) ، مثل كشافة الإخوان المسلمين في مصر ، أو من خلال التحالف مع بعض السياسيين ثم الانقلاب عليهم . وزاحمت هذه الجماعات جماعات الطيف السياسي الحديث الأخرى ، مثل الجماعات القومية التي حاولت التوفيق بين النفس الإسلامي ، والأطر القريبة من الدعوات القومية التي نشأت في الغرب ، ومثل الجماعات الاشتراكية والماركسية .
وما إن ظهرت الدولة العربية المستقلة بعد النصف الثاني من القرن العشرين ، حتى أصبح النقاش حول أطر الدولة الحديثة أكثر تجذرا وعمقا بين هؤلاء الفرقاء . ففي بلد مثل مصر هيئت حركة الإخوان المسلمين مع غيرها من الحركات السياسية الأجواء لانقلاب على النظام القديم ، الملكي الدستوري . بل وقد وجدت الجماعة الحاكمة الجديدة في أول الأمر أن السند الأول لها هو بقاء جماعات الإسلام السياسي ، حتى في ظل حل الأحزاب . ولما وجدت الأخيرة أنها بعيدة عن صنع القرار في ما تنفذه (الثورة) ، حصل الفراق والخصام ، ثم القطيعة. والملاحظ على صعيد الحركات الإسلامية السياسية أن معضمها لا يبدأ من حيث انتهى الاخرون ممن سبقوهم، بل إنها تبدأ من النموذج الذي يثير خيالها على الدوام ، وهو نموذج (دولة المدينة) ، وهو منهج دائرى السياق ولا يسمح بتراكم الخبرات التي يمر بها المجتمع الإسلامي عبر تاريخه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا .
البحث عن توليفة
البحث عن توليفة بين الإسلام وبين الشكل الحديث للدولة هو بحث بدأ منذ بواكير القرن الماضي ولايزال مستمرا . وقد ظهر ذلك في كتابات محمد عبده في مصر ، وأحمد خان في الهند ، ومالك بن نبي في الجزائر . وقد تعددت مدارسه واجتهاداته . وما تطورات الممارسة والفكر في الجمهورية الإيرانية التي نشهدها اليوم سوى مظهر من مظاهر هذا البحث المضني . وليس من المتوقع و لا من المعقول الحصول علي شكل واحد من هذه الاجتهادات بل هـي عملية تطور دائمة .
ونلحظ هذا التطور في مسيرة بعض البلدان الإسلامية ، فهي تأخذ بالأطر التقليدية ثم تسير بها أشواطا متباينة في درجات التحديث . حدث ذلك في ليبيا عند نيل استقلالها في 1951-1952 ، حيث أصبحت مملكة متحدة يرأسها السنوسي ، وهـو ابن حركة صوفية . وفي السودان ، رأينا جماعات اجتماعية إسلامية تقليدية ، كالختمية والأنصار ، نظمت نفسها في أحزاب سياسية جماهيرية وخاضت انتخابات بنجاح في فترات الديموقراطية المتقطعة التي عرفها السودان منذ استقلاله في العام 1956. وفي بلدان أخرى ، حدثت محاولات عدة لتحقيق التكيف بين الدعوات السياسية الدينية ذات الجذور الاجتماعية وبين هياكل الدولة الحديثة ، وهي أشكال لتآلف الهوية وتطويرها ، لم تستقر أو تثبت أو يكتب لها النجاح .
ولقد حصلت هذه الدعوات ، المطالبة بتحقيق التزاوج بين السياسي والتراثي ، على قبول واسع بعد أن فشلت أيديولوجيات النهضة في تقديم الإنجاز المبتغى . وأصبح عدد كبيرمن المفكرين يجدون في الإسلام ، بمعناه الواسع ، مصدرا محتملا لدفع الآمال الوطنية والشعبية إلى الإنجاز . وشكلت هذه الدعوات عمليات جذب وتفريخ ، فخرجت من رحمها مع الاحتكاك المباشر في ساحات مثل أفغانستان جماعات جذرية تطالب ليس فقط بمحاربة الآخر ، بل بمحاربة الوطن ، وتحول بعضها من الدعوة بالحسنى إلى الممارسة بالعنف ، وفى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي اختلطت الصورة إلى درجة التشوش.
ونجد اليوم بعض إرهاصات لجزء – وإن كان صغيرا – من حركات الإسلام السياسي يطالب بالديمقراطية ، ويمزج بينها وبين تحقيق مبادئ الإسلام . وتقوم هذه الجماعات بمبادرات فكرية وعملية ليست فقط مستجيبة لمبادرات الآخرين ، بل ونابعة من تفكير جديد ، كما يحدث مع الخاتمية في إيران ، خاصة أجنحتها الأكثر تقدما . وتجذب هذه الحركات المتعلمين والنشطاء من أبناء الطبقة الوسطى المطالبين بالتغيير . وهي تطالب وبشكل سلمي بالمشاركة في العملية السياسية في أوطانها , و لكن بعضها لايزال يغلب ما هو اجتماعي وتقليدي ومحلى على ما هو عام وجديد وابتكاري . ولايزال يكتنف دعوات البعض الآخرالغموض ، وتقف من بعض مظاهر التحديث موقف المعارض المتشدد ، وهي جماعات تظهر في دول عربية أو إسلامية في القلب أو في الأطراف .
وسـوف تظل كل هذه الاجتهادات – ما دامت سياسية – خلافية بالضرورة ، تأخذ من النصوص و التفسير ما يلائمها ، ومن تاريخ طويل من الصراع تارة ، والتآلف تارة أخرى . ولكن المحصلة التي يراها بعض المفكرين أن التزاوج بين الديموقراطية والهوية الإسلامية هو الطريق الأسلم ، إن عرفنا تاريخنا كما يجب أن نعرفه ، وعرفنا واقع العالم كما يجب أن نعرفه .
و لابد من الاشارة هنا إلى محاولات تجديدية في فكر الحركات الإسلامية ، ترمي إلى النهوض بالعمل الإسلامي نحو آفاق حضارية مجددة والأخذ من المبادئ المعاصرة ما هو مناسب كالديموقراطية ، نجد له صدى هنا أو هناك ، على الأقل في الإطار النظرى . وهي منهجية أقرب إلى النسبية من الإطلاقية ، وإلى الواقعية من المثاليه ، وإلى البناء من الهدم ، وإلى الشراكة من التفرد .
ولقد ظهرت تغيرات في فكر بعض الحركات الإسلامية فيما يتعلق بالنظر إلى الديموقراطية على أساس كونها مذهبا اجتماعيا وفلسفيا يحتوى على مكاسب مطلوبة ، بما يتضمنه من التعايش السلمي ، والانتخاب ، والأخذ بالرأي الآخر ، على شرط أساسي أن لا تتعارض مع أصول الشريعة الإسلامية . إلا أن تفسير هذه الأصول و المقاصد بين المدارس و الاجتهادات هو المختلف عليه .[19]
من المسؤول ؟
تكاد تجمع آراء الحكمة العربية على أن الديموقراطية لا يجب أن ينظر إليها كأحد (الأيديولجيات) ، فهي موضوع ثقافي ابتكاري متطور . ويقول أحد الثقات العرب إن : “الديموقراطية بمعناها المؤسسي ممارسة طويلة وصارمة من قبل الأفراد والجماعات والأحزاب ، وتتسور من الرأى العام ، فهي مثل أعلى لا يتحقق فجأة .. إنما يحظي بمتابعة مستمرة واختبار شاق ، وكغيرها من الأمثلة العليا تعنى أول ما تعني الصدق و الامانة” .[20]
وبسبب كل ما تقدم في هذه الورقة ، فإنني لن أوجه سهام نقدي إلى الأنظمة العربية المعادية للديموقراطية . ولن أعتبر نظاما منها أقل أو أكثر ديموقراطية من الآخر . فكلنا في الهم شرق . والمفاضلة فقط هي بين نظام يجردك من حقك في التعبير والتنقل ، وآخر يسلبك حقك في الحياة . فقد دخلنا مع العالم إلى القرن الحادي والعشرين من الناحية (الرقمية) فقط ، لكننا وحدنا مازلنا ندور في حلقة مفرغة اسمها التخلف .
ويذهب الأنصاري إلى أنه : “إذا كانت فلسطين هي قضية العرب الأولى ، فإن التخلف العربي الراهن هو نكبة العرب الأولى . وأي محاولة لإنكاره ، بأي عذر من الأعذار والمبررات لن تؤدي بنا إلا إلى المزيد من الضياع … وأي حركة ، دينية كانت أو قومية أو وطنية ، لا تضع التخلف ومعالجته في سلم أولوياتها وفي صميم مشروعها السياسي ، لن تجلب لنفسها ولأمتها غير المزيد من النكبات” [21] .
والتخلف هنا ليس تخلفا اقتصاديا ، أو اجتماعيا ، أو ثقافيا، أو سياسيا ، وإنما هو تخلف “مركب” إن جاز التعبير . وبالتالي فإنه من الصعب تقديم وصفة نهائية للخروج من مأزقنا الراهن . لكن ربما من خلال تشخيص العناصر الهيكلية لهذا التخلف نكون قد وضعنا يدنا على بداية الخيط الذي سيقودنا إلى استئناف مشروع النهضة المجهض. وسأحاول هنا أن أرصد في عجالة بعض عناصر هذا التخلف الذي أوصلنا إلى هذا الوضع المزري .
- أزمة الهوية : وجد العرب أنفسهم على حين غرة في مواجهة غير متكافئة مع الغرب المتقدم والأقوى ، لكن دون هوية سياسية تحميهم . وبدأت هذه الأزمة بوضوح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر . فقد قاوم الشعب المصري الاستعمار البريطاني تحت شعارات وطنية عامة ، بينما قاوم الجزائريون والليبيون والمغاربة الاستعمار تحت راية الإسلام . وكانت المشروعية السياسية قبل ذلك تستند إلى القبيلة باعتبارها الوحدة الأساسية للتنظيم الاجتماعي . لكن تحلل المجتمع القديم لم يعوضه ظهور مجتمع ذي هوية واضحة . ولم يسهم الصعود الوطني القومي في الستينيات من القرن الماضي في بلورة هذه الهوية لأنه كان دائما مشروعا توفيقيا جمع بين الخطـاب الثوري والسلوكيات المحافظة ، وبين الشـرق والغرب ، بين اليمين واليسار ، وبين التراث والحداثة ، وبين الدولة والثورة . وعندما تلقى هذا المشروع ضربته القاصمة فـي العام 1967 ، رفع شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” ، ليبدد بذلك كل أمل باق لتحقيق النهضة المنشودة . أما ظاهرة ما يسمى بالصحوة الإسلامية ، التي جاءت كرد فعل لهزيمة المشروع القومي فليست هي الأخرى سوى تعبير عن أزمة الهوية . فهل هناك عاقل يمكن أن يصف ذبح القرويين في الجزائر أو مذبحة السياح فـي الأقصر بأنها “صحوة” واستنهاض لهمة الأمة ؟ إنه الاعتماد علي (عكاكيز) القرون الوسطي والانصراف عن منهجية الفكر الحديث .
- التخلف المجتمعي : عجز المشروع القومي عن الوصول بالمجتمعات العربية حتى إلى أعتاب الحداثة . بل إن الجهود التنموية ، التي هي عصب أي نهضة منشودة ، أفضت إلى تغييرات في القشور وليس في قلب المجتمع ، أي حولت قطاعـات كبيرة من أبناء الريف والبادية إلى بورجوازيين صغار . ومع تفشي الفساد ، وعجز الجهود التنموية عن ملاحقة الزيادة السكانية الرهيبة ، تحول هؤلاء البورجوازيون الصغار إلى جيوش من العاطلين عن العمل لم يجدوا أمامهم سوى غزو المدن العربية بحثا عن لقمة العيش . ولم يكن هذا الغزو غزوا بشريا فقط ، وإنما كان غزوا قيميا وثقافيا وحضاريا أيضا .
وفي المجتمعات الديموقراطية ، تضمن قـوة المجتمع المدني ألا يخون الحكام ثقة الشعب ، والأهم من هذا أن الجماهير الواعية ومنظمات المجتمع المدني تؤثر على صناعة القرار السياسي . لكن الحكام العرب يحكمون شعوبهم من خلال سياستي الرشوة والقمع ، لضمان خضوعهم المطلق ، وممارسة العنف المنظم لتوليد الخوف الجماعي لدى الشعب[22] . ولم يطور العرب – سواء على مستوى النخبة أو على مستوى الجماهير – قدراتهم على اتخاذ القرارات السياسية أو الاقتصادية الصعبة أو المعقدة ، وهو ما قاد إلى حالة من التشوش المزمن وإحساس عميق بالعجز على مستوى الفرد ، الأمر الذي أفضى بدوره إلى أزمة عميقة في جوهر بنية المجتمع . فالفجوة بين الحكام والمحكومين تتسع نتيجة لمقاومة النخب الحاكمة للتغيير من جهة ، ومن ناحية أخرى لعدم مبالاة الجماهير .
- غياب الاستراتيجية : تفتقر النخب العربية الحاكمة إلى أية رؤية استراتيجية للمستقبل . بل إن هذه النخب ، التي لا تتمتع بثقة شعوبها ، لا تملك رؤية للغد ، بالمعنى الحرفي للكلمة . وقد أثبتت النخب العربية الحاكمة عجزها عن فهم التغيرات المتسارعة لعالم ما بعد الحرب الباردة . ومع تحول النظام العالمي نحو العولمة ، عجزت هذه النخب عن وضع أي تصور لما سيفعله العرب للتعامل مع هذا العالم الجديد . ومع العداء المتأصل للمثقفين والديموقراطية ، وقمع المعارضة من أجل الحفاظ على بقاء النظام ، تحيل النخب العربية الحاكمة أزماتها إلى قوى خارجية ومؤامرات خلف الحدود . والطريف في الأمر أنها تعد شعوبها منذ عقود عدة بـ”قفزات” تنموية وديموقراطية طال انتظارها . وهى عندما تسمح بهامش ديموقراطي – ينحصر في حرية “رفع الصوت ” على صفحات الجرائد الحزبية المحدودة التوزيع ، وليست حرية العمل السياسي الحقيقي بين الجماهير ، فإنها لا تفعل ذلك من أجل مصلحة شعوبها ، بل من أجل تجميل صورتها الخارجية .
ومن مظاهر الاختلال الكثيرة ، الاختلال الاقتصادي ، الذي تظهر بعض تجلياته في الفجوة الغذائية العربية ، فنتيجة لتخلف القطاع الزراعي العربي بلغت الفجوة الغذائية العربية العام 1998 نحو 13 مليار دولار . وتضخمت الاستدانة العربية من الخارج ، وتحول حتى بعض الدول النفطية إلى دول مدينة . ويقدر الدين العام الخارجي للدول العربية بحوالى 160 مليار دولار ، كما تبلغ فائدة هذا الدين سنويا أكثر من 12 مليار دولار ، مما أدى إلى اتساع دائرة الفقر والبطالة. ومن مظاهر الاختلال الأخرى الإنفاق الهائل علي شراء السلاح ( يقدر في العقود الثلاثة الماضية أن 1800 مليار دولار صرفتها الدول العربية على السلاح) . ويعاني الأطفال و النساء العرب من أكثر أشكال الضغوط الاقتصادية والاجتماعية قسوة ، كما تعاني الدول العربية من قصور هائل في الإنفاق على البحوث والمعرفة [23], وهي أمثلة فقط علي الاختلال حولنا، والذي يؤثر تأثيرا فادحا علي الوضع العربي الإقليمي أو اي تطور سياسي باتجاه الديمقراطية. هذا في وقت تراكمت فيهه الارصدة الخارجية للافرد العرب المستثمرة في الخارج حتى بلغت في الوقت الحاضر اكثر من الف مليار, و ذلك لعدم ثقة بعض النخب في الاستثمار داخل في اوطانها.
وهناك شبه إجماع بين المتابعين على أن انتشار الرأسمالية الجديدة سوف يؤدي إلى ضمور وتآكل القوة الوطنية، وقوة استقلالية الدولة الوطنية، ويقول بنجامين باربر في كتابه الجهاد ضد السوق الكونية ، وهو كتاب ترجم إلى اللغة العربية تحت عنوان عالم ماك !! ، بأن المستقبل مجسد في صورة مفعمة بالحركة لقوى اقتصادية وتقنية وإيكولوجية مندفعة تطلب التكامل وتغرق وعي البشر في كل مكان بطوفان الموسيقى السريعة والكمبيوترات السريعة والوجبات السريعة ، دافعة الأمم باطراد نحو حديقة ملاهي كبيرة وعالمية ووحدة متجانسة التكوين . [24]
ويصف المجتمع العولمي بأنه مجتمع يقتصر فيه ولاء مختلف أعضائه على مصالحهم الذاتية على حسـاب أي تصور للمصلحة العامة أو الخير المشترك ، وهكذا نجد أن الاستهلاك والربح هما قاعدتان ذهبيتان للعولمة.
والواقع أن جوهر العولمة الاقتصادية هو انتقال مركز ثقل الاقتصاد العالمي من الوطني إلى الكوني ، من الدولة إلى الشركات والمؤسسات والتكتلات عبر القومية . وهنا تفرض العولمة الاقتصادية منطقها الخاص حتى لو تعارض هذا المنطق مع رغبات أكبر الدول وأغناها . فقد نمت الاستثمارات الأجنبية العالمية المباشرة عام 1999 اضعاف ما كانت عليه عام 1990.
والعولمة بهذا المعني تفرض التناغم في القوانين و تفرض حرية انتقال السلع والبشر ، كما تحث علي توحيد المعايير ونظم الجمارك ومعايير الرقابة على السلع وقوانين الطيران والهجرة، وكل ما له علاقة بالنشاط التجاري عبر الوطني ، ولكن النشاط الاقتصادي لا يعيش في فراغ ، فهناك العديد من التبعات التي يجب أن تصاحب هذا العمل ، لها علاقة بالإنسان وبيئته ومعيشته وحرياته، وأهمها ثقافته.
و من المتوقع أن تفرض العولمة التجانس من جهة و قبول التعددية من جهة أخرى، وسوف تفرز صراعات ثقافية واقتصادية، كما سوف تقوم بعملية تفكيك وإعادة تجميع في أقاليم عديدة من العالم، وقتها سوف تحدث عمليات دمج وعزل في مناطق أخرى .
ومن الصورة السريعة السابقة يتضح أن العرب كمجموعة بشرية ، تضربهم العولمة دون أن يكون هناك تفكير استراتيجي ، ولو في حده الأدنى ، يحاول تلمس المشكلات من جهة والفرص من جهة أخرى ، التي توفرها العولمة .
4- التخلف الثقافي : تعتبر الحياة الثقافية لأي بلد بمثابة مؤشر على صحة المجتمع ككل . وقد أسهمت عوامل عدة في الجمود الذي أصاب الحياة الثقافية العربيـة : الاستبداد السياسي ، والخضوع للنخب الحاكمة ، والتخلف الاقتصادي ، وتفشي الأمية ، وانتهاك حقوق الإنسان ، خاصة الحق في التعبير فضلا عن العداء المتأصل الذي تكنه النخب الحاكمة لكل أشكـال التفكير المستقل . ويضاف إلى هذه العوامل ضعف المجتمع المدني في أكثر المجتمعات العربية تحضرا وغيابه الكامل في المجتمعات الأخرى ، وهو ما يعني تبديد أي فرصة لظهور رأي عام مستقل عن النخب الحاكمة . وتبذل الأنظمة العربية كل ما في وسعهـا من أجل السيطرة على عقول شعوبها من خلال تزويدها بمعلومات موجهة . وتبشر وسائل الإعلام المملوكة للسلطة بالديموقراطية وحقوق الإنسان ، بينما تمارس الأنظمة القمع يوميا ضد المثقفين المستقلين والمواطنين العاديين . وتعاني المجتمعات العربية من الرياء الذي يغلف الخطاب الرسمي للنخب الحاكمة ، ومن عدم الثقة في كل ما تقوله وتفعله ، وفقدان الثقة في ألذات ، وتهميش المثقفين المخلصين – إذا لم يلق بهم في أقبية السجون . ويذهب الأنصاري إلى أن هذه الثقافة أنجبت ازدواجية أخلاقية داخل المجتمعات العربية : “… أخلاقية العلن هي أخلاقية الجماعة المتجبرة في فضائلها المنسوبة إلى إرث معنوي مستمد من الآباء والأجداد غير قابل للمراجعة والتصحيح . وأخلاقية الخفاء هي السلوكية الحقيقية والفعلية للفرد المكبوت في ممارسته لمستلزمات حياته ومتطلبات غرائزه ودفق مشاعره وتساؤلات عقله”[25] .
وللتدليل على حجم التردي الثقافي العربي يمكن الرجوع إلى إحصائيات المنظمات الدولية المختلفة المتعلقة بالواقع الثقافي العالمي ، والخدمات الثقافية التي تقدم لمختلف شعوب العالم .
وماذا بعد ؟
هذا هو واقعنا ، وهذه هي حقيقة وضعنا المأساوي على خارطة الحضارة العالمية . نحن هامشيون ، ومهمشون ، ووضعنا صعب للغاية ، بل وسيزداد سوءا . وهنا لن تنفعنا الثروة . فثرواتنا كلها لن تنقلنا من موقعنا الهامشي . وغرورنا باستخدام أحدث منتجات العصر الاستهلاكية لن ينفعنا عندما يسألنا أبناؤنا ماذا فعلتم من أجلنا ؟ الثروة الحقيقية ليست في امتلاك المال ، أو الاستمتاع بالسلع الاستهلاكية ، بل هي في النشاط الإنتاجي والإبداعي ، وقدرة المجتمع ذاته على التجدد ، وتجديد ينابيع الإبداع فيه ، وامتلاك المعرفة وأدواتها .
إن أي رصد لواقعنا العربي (الواقع) لا يمكنه إنكار هول التردي الذي وصلنا إليه ، وحجـم التحديات المفروضة علينا إذا أردنا النهوض من ثباتنا الطويل . والعامود الفقري لهذا النهوض هو إعادة الديموقراطية إلى قلب الحياة العربية على مختلف الأصعدة . فقد غابت الديموقراطية عن التطور السياسي والثقافي والاجتماعي العربي في العصر الحديث . ولم تحتل الأولوية في جدول أعمال معظم – إن لم يكن كل – التيارات الفكرية والسياسية العربية . بل إن بعض التيارات رفضها جملة وتفصيلا بحجج متباينة ، ومن قبلها تنكرت لها واقعا عمليا وممارسة يومية .
والواقع أن كل هذه الأخطار الخارجية والأنواء الداخلية تفرض إعادة النظر في الوضع العربي كله لتحديثه ، وإعطائه الحركية الحيوية اللازمة ، وجعله في مستوى المعطيات العالمية المتطورة . وإذا أخذنا كل هذا بعين الاعتبار فسندرك أننا لن نتجاوز أزمتنا إلا بمشروع عربي نهضوي شامل ذي أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية وتعليمية وثقافية . مشروع لا يتجاهل الاختلاف الثقافي مع الآخـر ، لكنه يعتبره حافزا للإبداع والتجديد . مشروع يسعى إلى ترسيخ الخيار الديموقراطي وإعلاء شأن الإنسان وكرامته وحقوقه ، ويتعامل مع تيارات الحضارة العالمية بأفق رحب يتجاوز القوالب الأيديولوجية الجامدة ، والأحكام المسبقة ، والانغلاق على ألذات ، مشروع يستند أساسا على القدرة على نقد ألذات ، وإعادة إنتاج المعرفة من قلب التعامل الإيجابي مع ظواهر العصر .
والحقيقة أن إنتاج هذا المشروع لن يتم فقط في أروقة الحكومات العربية ، بل هو منجز جماعي تسهم فيه منظمات المجتمع المدني ، والحركة الثقافية العربية بالمعنى الأرحب للكلمة ، بما في ذلك صناع الثقافة ومنتجيها ومبدعيها ، ومؤسسات القطاع الخاص ، والاتحادات ، وجمعيات المجتمع المدني.
وفي ظل هذه اللحظة المظلمة من التاريخ العربي ، تصبح الثقافة هي “خط الدفاع الأول” . وكما يلاحظ الأنصاري بنظره الثاقب : “يكاد يكون قانونا شبه متواتر في التاريخ العربي ، أنه عندما يشتد التراجع في الساحات السياسية والعسكرية ، يصبح العمل الثقافي (خط الدفاع الأخير) ، بل يتحول إلى جبهة مواجهة وإثبات وجود في وجه الاختراقات المضادة ، الأمر الذي يسمح بالافتراض أن (العروبة) والهوية العربية الواحدة تقف أو تسقط – في نهاية المطاف – باعتبارها ثقافة ومسألة انتماء ثقافي قبل أي اعتبار . هكذا كان القرن الرابع للهجرة في منطقة الثقل العربي :عصر انحلال السياسة وازدهار الثقافة في الوقت ذاته . وهكذا كانت العهود الأخيرة من تاريخ الأندلس . حيث تألق نجم ابن رشد وابن خلدون … بينما كانت القوات الإسبانية تتقدم و(ملوك الطوائف) يتساقطون . وهكذا أثبت عصر النهضة الحديثة عندما وقعت المنطقة العربية في قبضة الاحتلال الأوروبي فتوالت موجات النهوض الثقافي منذ جيل الطهطاوي وخير الدين التونسي ، إلى جيل الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي … ولعل مؤرخ التحولات العربية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين … سيكون بإمكانه أن يؤرخ بالمثل ، وإن الهزيمة العربية الشاملة التي تطاولت … قد أفرزت تدريجيا حركة مراجعة ثقافية جادة – في مواجهة الهزيمة – مازالت تتوالى فصولا ، وقد تمثل واحدة من أهم حركات إعادة التأسيس الفكري واستئناف البناء الحضاري في حياة العرب ” [26].
إن مستقبل ثقافتنا العربية هو مستقبل الأمة العربية ذاتها . ولن ننجو من أزمتنا الراهنة من دون أن تتبنى الثقافة العربية الدعوة إلى تنوير العقل ، وتستعيد رسالتها الإنسانية المنفتحة على العالم التي تعلي من شأن العقل والإبداع . فقد ساد العرب الدنيا عندما أبدعوا ، وترجموا ، واكتشفوا وطبقوا . والآن يتعين علينا أن نبذل الجهد نفسه إذا أردنا الخروج من مأزقنا الراهن . وما أحوجنا الآن في هذه اللحظات الفاصلة في تاريخ عالمنا العربي – وتاريخ العالم – إلى شجاعة القلوب والعقول . إنها دعوة إلى المصارحة ونقد ألذات وإعادة قراءة واقعنا على كل الأصعدة .
وكل ما أريد أن أؤكد عليه هنا هو أن الديموقراطية لا تتحقق بالأمنيات الطيبة فقط، بل تتحقق عندما تكون ذروة لنهضة اجتماعية واقتصادية وثقافية وأخلاقية شاملة . الديموقراطية عندما تكون فقط مجرد انتخابات حرة تجرد ، عن عمد أو عن غفلة ، من محتواها الحقيقي . فالانتخابات الحرة في ظل التخلف العربي الراهن لن تأتي بدعاة النهضة ، بل إن المنطق يقول إنها قد تأتـي بالأكثر غوغائية ، والأعلى صوتا ، والأكثر كذبا ، والأسوأ من هذا وذاك أنها قد تأتي بقوى فاشية معادية للتقدم وللديموقراطية ذاتها .
[1] روبرت كابلان ، المرجع نفسه .
[2] اول دستور مكتوب هو الدستور الأمريكي ، الذي حاول تخطي مشكلات العمل السياسي في أوروبا التي عرفها المهاجرون الأوائل وذاقوا مرارتها .
[3] روبرت كابلان ، المرجع نفسه .
[4] النقيب ، خلدون . أزمة الديمقراطية في الوطن العربي : محاضرات الموسم الثقافي الرابع عشر لرابطة الاجتماعين في الكويت ، 1983 ص. ص.129 –148 .
[5] المصدر نفسه ، ص 131 .
[6] مجلة صباح الخير المصرية ، عدد 26 يونيو 2001 .
[7] المظفر ، زهير : مفهوم الديمقراطية في الدساتير العربية ، مجلة الدراسات الدولية – فصلية تونسية ، عدد 51 ، 1994 .
[8] المصدر السابق .
[9] الخماسي ، عبد الهادي : الأمير عبد الإله ، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 2001 ، ص ص 131 –157 .
[10] الجابري ، محمد . وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر .بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1992 ، ص124 .
[11] المرجع نفسه ، و انظر أيضا : أمين ، سمير . أزمة المجتمع العربي . القاهرة: در المستقبل العربي ، 1985.
[12] إبراهيم ، سعد الدين . المجتمع المدني و التحول الديمقراطي في الوطن العربي . القاهرة ، مركز دراسات التنمية السياسية و الدولية ، 1991 .
[13] الخازن ، جهاد . جريدة الحياة 23 مايو 1990 .
[14] الربيعي فاضل . كبش المحرقة ، نموذج لمجتمع القوميين العرب بيروت . دار رياض الريس ، يناير 1999 .
[15] الأنصاري محمد جابر ، “مساءلة الهزيمة” .
[16] في سميث ، باترك . اليابان ، رؤية جديدة ، عالم المعرفة ، إبريل 2001 ، ص 8 ، نقـلا عن لفنسون ، جوزف .الصين والكونفوشية وقدرها الحديث ( كتاب صدر في الخمسينات) .
[17] انظر محاولة جريئة لدراسة تجربة إيران في المزاوجة بين التراث الشيعي و الحداثة في كتاب Wright, Robin: The Last Great Revolution New York 2000
[18] من النصوص المشهورة للشيخ البنا أن الديموقراطية معلمة ( شورية) ، ثم ظهرت كتابات أخرى للكثير من المجتهدين أشارت إلى أنها ملزمة .
[19] لمزيد من التفصيل، أنظر: احمد، زكي . الديمقراطية في الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر. المستقبل العربي.15 (164) تشرين الأول – أكتوبر، 1992.
[20] زريق، قسطنطين ( الديمقراطية في الحكم وفي صفوف الشعب) ، جريدة الحياة ، 4 مايو 1990 .
[21] الأنصاري، محمد جابر ، مرجع سابق .
[22] النقيب ، خلدون حسن . الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر: دراسة مقارنة.بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ،1991 ، ص289.
[23] انظر الدراسة الممتازة التي نشرها الدكتور مهدي الحافظ في جريدة الحياة بتاريخ 6 يوليو 2001 تحت عنوان “مقاربة إنمائية لحال الوطن العربي وصلاته بالعالم الخارجي” .
[24] Benjamin Barber , Jihad vs. MacWorld , (New York , Ballantine Books , 1996)
[25] الانصارى ، مرجع سابق .
[26] الأنصاري محمد جابر ، المرجع نفسه .
تست تست
إعجابإعجاب